أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2015
غروب شمس حياة يعقوب
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

من الصعب أن نميِّز أيهما أكثر روعةً وجمالاً، هل هي نعمة الله المُخلِّصة التي تُعطي للمؤمن مركز الثبات الكامل في المسيح، وتجعله مُبرَّرًا ومقبولاً أمام الله، أم هي النعمة التي تحتمله بأناة كثيرة في الطريق رغم فشله المتكرِّر؟ وأيهما أكثر تأثيرًا: هل التمتع بغفران الخطايا على أساس دم المسيح، أم معاملات الله الصبورة مع خطايانا بعد الإيمان؟ هل هي النعمة التي ستضعنا في المجد بجوار ابن الله على صورة جسد مجده، أم هي النعمة التي تُشَكِّل في أوانينا وتجعلنا مشابهين صورته ونحن هنا على الأرض؟ ورغم أنها حقيقة مؤكَّدة أن «ما يزرعه الإنسان إيَّاه يحصد أيضًا»، لكنها أيضًا حقيقة مؤكَّدة أن الله «لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا» (مز١٠٣: ١٠).

إنه إله كل نعمة الذي «لمْ يُبْصِرْ إِثْمًا فِي يَعْقُوبَ، وَلا رَأَى تَعَبًا (تمردًا) فِي إِسْرَائِيل» (عد٢٣: ٢١)؛ هذه الكلمات قالها الله على لسان بلعام عن هذا الشعب الذي أظهر الكثير من التذمر والتمرد على الله. ونلاحظ أن النبي لم يقل: إن الله “لم يجد إثمًا في يعقوب”، لأنه يعرف أنه موجود. ولو قال ذلك لِمَا شعر المؤمن براحة أو تعزية، لأنه يصطدم بالخطية الساكنة فيه كل يوم. والرسول يوحنا يقول: «إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا» (١يو١: ٨). وكل مؤمن يعرف ضربة قلبه. لكن الذي يُعطي الراحة والسلام هنا هو أن أعلم هذه الحقيقة العجيبة؛ أن الله لا يرى فيَّ إثمًا. إنه «لمْ يُبْصِرْ إِثْمًا فِي يَعْقُوبَ» لأنه يراه من خلال المُحْرَقَة الدائمة التي تجلب السرور لقلبه. كذلك نحن لا يرى ما فينا من عناد وتمرُّد وشرور، لأنه يرانا في المسيح الذي حَمَلَ خطايانا في جسده على الخشبة، والذي مجَّده بطاعته الكاملة حتى الموت موت الصليب «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش٥٣: ٦).

من هذه الوجهة أي سلوك يجب أن نعيش بمقتضاه؟ بكل تأكيد لا يُمكننا فعل أي شيء الآن يُغضب مَن تعامل معنا بهذه الروعة، بل علينا أن نُبدي له استعدادًا لطاعة مبتهجة، ذاك الذي فعل الكثير لأجلنا. وحقًا يجب علينا أن نمتنع عن كل شبه شر، إلا أن كلمة “يجب” تُديننا لأنها تدل على فشلنا؛ لأني لا أقول لمن يُتمّم واجبه: عليك أن تفعل هذا وذاك. وإن اضطررت أن أقول لأحدهم: يجب أن تفعل هذا، فالاستنتاج الواضح أنه لا يفعله.

فكم هو عجيب ومؤثر في القلب صبر النعمة الذي يتحمل إخفاقاتنا وجحودنا المستمر الظاهر في طرقنا التي لا تُمجد المسيح! لذلك نكرر القول أنه من الصعب تحديد أي من الاثنين أعجب: محبة المسيح التي غسلتنا من خطايانا، أم محبتة التي سيظل يُحبنا بها بلا حدود “إلى المنتهى” على الرغم من أنه ليس فينا ما يستحق الحب.

هذه هي الانطباعات التي تتكون لدينا من التأمل في تاريخ يعقوب. وإذ نتتبع تسجيل الروح القدس لتلك الحياة، كم نتعجب المرة تلو الأخرى من صبر الله في معاملاته مع ذاك المعاند غير المستحق؛ وبالتأكيد ليس سوى “إِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ” (١بط٥: ١٠) كان يمكن أن يتحمل تقلبات إنسان مثل هذا، بكل طول الأناة هذه. آه، إن هذا عين ما ينطبق على الكاتب والقارئ جميعًا، والطريقة الوحيدة التي يمكن أن نرى بها معاملات الله معي ومعك كل هذه السنين هي النعمة التي يصعب سبر أغوارها، ولا مثيل لها فهو بالحقيقة «يَتَأَنَّى عَلَيْنَا» (٢بط٣: ٩).

إن متابعة معاملات الله خلال المشاهد المتغيرة في حياة يعقوب ليست مؤثرة فحسب، لكن جميل أيضًا أن نلاحظ انتصارات النعمة الإلهية الواضحة في أيامه الأخيرة «أَمَّا سَبِيلُ الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِقٍ، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ» (أم٤: ١٨)؛ وهو الأمر الظاهر جليًا في حالة هذا البطريرك. ما أضعف إظهارات الحياة الإلهية في حياة يعقوب سواء المبكرة، أو في منتصف عمره؛ فما أكثر سيره بقوة الجسد، حتى إنه يصعب علينا تحديد متى بدأت حياته الروحية بالضبط. لكن كلما اقترب من نهاية سياحته الأرضية، يزداد البرهان - فيه كما فينا أيضًا – أنه «إِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا» (٢كو٤: ١٦). إن أُفول شمس حياة يعقوب يعلن عن انتصارات نعمة الله القديرة، وتأثير التغيير العجيب الذي تُحدثه قدرته في المادة التي تبدو غير واعدة.

وعلينا أن نوجه انتباهنا الآن إلى بعض ثمار الحياة الإلهية في يعقوب. وما الذى يُنشئ هذه الثمار؟ واحدة من الإجابات عن هذا التساؤل نجدها في عبرانيين ١٢ «يَا ابْنِي، لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ ... وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب١٢: ٥، ٦، ١١).

ألا تُعطى هذه الأعداد مفتاحًا للمشاهد الختامية في حياة بطريركنا! بأي وضوح يُمكننا تمييز يد الله المؤدبة عليه؛ لقد تعاقبت الأحداث الأليمة على يعقوب. أولاً: ماتت المرضعة المُخلِصة دبورة (تك٣٥: ٨)، وتبع ذلك تقريبًا مباشرة موت محبوبته راحيل (تك٣٥: ١٩). ثانيًا: نقرأ أن بكره رأوبين «ذَهَبَ وَاضْطَجَعَ مَعَ بِلْهَةَ سُرِّيَّةِ أَبِيهِ، وَسَمِعَ إِسْرَائِيلُ» (تك٣٥: ٢٢)، ثم مات أباه إسحاق (تك٣٥: ٢٩). مسكين يعقوب! جاءته الأحزان ثقيلة وسريعة، لكن يد التأديب الإلهي كانت مزمعة أن تقع عليه أثقل وأقوى. فها يعقوب يُمَس الآن في مركز مشاعره؛ فيوسف ابنه المحبوب أُخذ منه، وندبه كميت. وكانت بلا شك لطمة قاسية لأننا نقرأ: «فَمَزَّقَ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَ مِسْحًا عَلَى حَقَوَيْهِ، وَنَاحَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً. فَقَامَ جَمِيعُ بَنِيهِ وَجَمِيعُ بَنَاتِهِ لِيُعَزُّوهُ، فَأَبَى أَنْ يَتَعَزَّى وَقَالَ: إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحًا إِلَى الْهَاوِيَةِ. وَبَكَى عَلَيْهِ أَبُوهُ» (تك٣٧: ٣٤، ٣٥).

كيف يُنظر إلى تلك الأحزان والمآسي؟ هل كدلائل على الغضب الإلهي؟ أم كقضاء من الله؟ بالطبع كلا، فالله لا يتعامل هكذا مع خاصته، بل الرب يُؤدب مَن يُحب؛ وحتى الآلام والمآسي هي ضمن عطايا محبته، مُرسلة عن إخلاص، لبركاتنا ولتدريب قلوبنا، ولفطم مشاعرنا عن الأمور الأرضية، لنلقي بأنفسنا بالتمام عليه، حتى نتعلم اختباريًا كفايته لنا في كل الظروف.

لقد كانت الخسائر التي كابدها يعقوب والتجارب التي كان عليه مواجهتها ضمن “كل الأشياء” التى عملت معًا لخيره (رو٨: ٢٨). لكن معاملات الله التأديبية مع بطريركنا لم تأتِ بثمر البر للسلام في الحال – لكنها أتت به “فيما بعد” أو “أخيرًا” (عب١٢: ١١). أما أولاً فلا نرى إلا مقاومة الجسد. فعندما رجع بنو يعقوب من مصر، بعدما اشتروا القمح، لم يكن معهم شمعون. والأسوأ من ذلك أنهم أخبروا أباهم أن سيد صوامع التخزين في مصر، طالبهم بالإتيان ببنيامين معهم عند رجوعهم ثانية. فاستمع إلى انفجار الكدر الخارج من شفتي يعقوب عند سماعه تلك الأخبار: «فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: أَعْدَمْتُمُونِي الأَوْلاَدَ. يُوسُفُ مَفْقُود،ٌ وَشَمْعُونُ مَفْقُودٌ، وَبِنْيَامِينُ تَأْخُذُونَهُ. صَارَ كُلُّ هَذَا عَلَيَّ!» (تك٤٢: ٣٦). مسكين يعقوب! إنه ينظر إلى الأمور التي تُرى، لا إلى التي لا تُرى، ويمشي بالعيان لا بالإيمان. لم يبدو له أن لله قصدًا حكيمًا من وراء كل تلك الأحداث بل حكم “بِحسه الواهن”. لكن قبل أن ننطق بالحكم على يعقوب دعونا نتذكر الكلمة المذكورة في رومية ٢: ١ «لِذَلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُورَ بِعَيْنِهَا!».

إلا أن يعقوب لم يستمر على هذه الحالة طويلاً، بل إن ما ذُكر عنه بعد ذلك نرى فيه روحًا أفضل: «وَكَانَ الْجُوعُ شَدِيدًا فِي الأَرْضِ. وَحَدَثَ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَكْلِ الْقَمْحِ الَّذِي جَاءُوا بِهِ مِنْ مِصْرَ، أَنَّ أَبَاهُمْ قَالَ لَهُمُ: ارْجِعُوا اشْتَرُوا لَنَا قَلِيلاً مِنَ الطَّعَامِ» (تك٤٣: ١، ٢). فالانفراجة التي حصلوا عليها من رحلة بنيه الأولى إلى مصر، والقمح الذي أتوا به من هناك سرعان ما نفذ، وكان الجوع لم يزل “شَدِيدًا فِي الأَرْضِ”؛ فحرض يعقوب بنيه «ارْجِعُوا اشْتَرُوا لَنَا قَلِيلاً مِنَ الطَّعَامِ». ألا تدل هذه الكلمة “قَلِيلاً” على التأثير المُبارك لمعاملات الله التأديبية معه؟ فعدم الإيمان والجشع كانا ليرغبا في الكثير من الطعام للتخزين بطول المجاعة، لكن يعقوب اكتفى “بالقليل”؛ فلم نعد نراه كسابق عهده؛ أنانيًا وطماعًا، بل يسعى أن يكون لمن قل مخزونه، نصيبًا أيضًا مثله. وطالما كان المستقبل مجهول، فهو يثق بالله.

لكن ها مشكلة قد فرضت نفسها عليه الآن، فَبَنِيه لا يمكن أن ينزلوا إلى مصر إلا ومعهم بنيامين. وهذا كان آخر ما يمكنه توقعه، فدب صراع في صدره، وتصادمت مشاعر الأبوة فيه مع صرخات الجوع، ولكى يُسكّن ابنه يهوذا مخاوف أبيه يعقوب، قدم عرضًا بأن يكون الضامن لأخيه الأصغر، فاستسلم يعقوب لكن دون قدر وفير من التردد. إلا أنه من الجميل ملاحظة الطريقة التى أذعن بها البطريرك الشيخ للطلب؛ فهو ليس خضوع المضطر، كمن خنع لقدر عنيد، وفي قلبه ثورة عارمة ضده. كلا، بل خضع بطريقة تليق برجل الله. وبعد أن رتب إعمال كل وسيلة ممكنة لاسترضاء سيد مصر، سلّم القضية برمتها لله.

وأخيرًا قال يعقوب لبنيه: «خُذُوا أَخَاكُمْ وَقُومُوا ارْجِعُوا إِلَى الرَّجُلِ. وَاللهُ الْقَدِيرُ يُعْطِيكُمْ رَحْمَةً أَمَامَ الرَّجُلِ حَتَّى يُطْلِقَ لَكُمْ أَخَاكُمُ الآخَرَ وَبِنْيَامِينَ. وَأَنَا إِذَا عَدِمْتُ الأَوْلاَدَ عَدِمْتُهُمْ» (تك٤٣: ١٣، ١٤). لاحظ كيف يتحدث يعقوب عن الله “اللهُ الْقَدِيرُ” أو “الله الكافي”. هذا هو الاسم الذي به حصل إبراهيم على البركة (تك١٧: ١)، وهو الاسم الذي استخدمه إسحاق وهو يُبارك يعقوب «اللهُ الْقَدِيرُ يُبَارِكُكَ» (تك٢٨: ٣). وهو في استعماله لهذا الاسم هنا، فإن يعقوب يستند على إله العهد والوعد. لذا نرى أن صلاته كانت صلاة إيمان. ولاحظ أيضًا ثقته في قوة الله المطلقة، كما نراها في طلبته أن يحرك الرب الرجل الذي على مصر أن يسمح بإطلاق بَنِيهِ سالمين. أخيرًا تأمل هنا روح التسليم التي أظهرها؛ «وَأَنَا إِذَا عَدِمْتُ الأَوْلاَدَ عَدِمْتُهُمْ».

أليس جميلاً أن نتتبع العاقبة؟ لقد استودع يعقوب بنيامين بين يدي الله، فرجع إليه سالمًا. عندما يتعامل الله مع قديسيه فإنه عادًة ما يمس أغلى ما عندهم؛ إن كان هناك غرضٌ ما يلتف حوله القلب أكثر من غيره، فيبدو منافسًا لله، من هذا لا بد أن نُحرم. لكن إن كنا نستسلم بتواضع بين يدي الله، بعد أن يؤخذ منا هذا الشيء، فليس غريبًا عليه أن يُعيده إلينا. هكذا استرد إبراهيم إسحاق بعد أن قَدَّمه. وكذلك داود إذ سلم نفسه لله ليفعل به كإرادته، حُفظ وسط الخطر. وهكذا حدث مع بنيامين الذي أُعيد إلى يعقوب.

يتبع

آرثر بنك