أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2015
يشوع يخطو لابسًا حذاء القائد
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

إذا طُلب منك أن تكتب قائمة بأعظم رجال العهد القديم فمن ستضمنها؟ إن اليهود في وقت الرب يسوع كثيرًا ما تكلموا باحترام عظيم عن إبراهيم وموسى. ويقينًا نظروا إلى داود كذلك. هؤلاء كانوا بعض أعظم شخصيات العهد القديم في إسرائيل. فموسى كان نبيًا فريدًا «وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ» (تث٣٤: ١٠). ولكن موسى كان مجرد إنسان، ومن ثم مات؛ وهكذا تُرك إسرائيل بدون قائد يخلف هذا النبي العظيم. فمن يُمكنه أن يملأ مكانه ويسير في إثر خطواته؟

كان يشوع هو الرجل المُعيَّن من الله ليُكمل العمل الذي ابتدأه موسى. إن السفر الذي يحمل اسمه في العهد القديم يُخبرنا الكثير عن دعوة هذا القائد وخدمته، بل وموته. ولكن ليس ذلك السفر هو المصدر الوحيد للمعلومات عنه؛ فأسفار الخروج والعدد والتثنية أيضًا تحوي إشارات عن يشوع، وتُقدم لنا هذا الرجل الذي صار خادمًا للرب، يقف في صفه.

ظهور يشوع

أول ذكر ليشوع وارد في خروج ١٧. كان الإسرائيليون يرتحلون من مصر إلى أرض الموعد عندما هاجمهم العمالقة. ولم يتضمن ذلك سجل لنسبه أو أي معلومات عنه. مباشرة يظهر اسم يشوع في سفر الخروج كالقائد الذي اختاره موسى ليقود الإسرائيليين في المعركة. ولا ريب أن موسى توسم صفات القائد في هذا الشاب. فلم يكن عادة أن يقود جيش الإسرائيليين قائد ما. بل الحقيقة إنه عندما واجه الشعب جيوش فرعون سالفًا، أُخبروا أن يتركوا القتال للرب (خر١٤: ١٤). ولكن الموقف الآن تغيَّر. كان يشوع يدرك أنه ليس بمفرده، بل إن موسى سيقف على رأس التَّلَّةِ حاملاً عصا الله في يده. ولاحظ طاعة يشوع «فَفَعَلَ يَشُوعُ كَمَا قَالَ لَهُ مُوسَى لِيُحَارِبَ عَمَالِيقَ» (خر١٧: ١٠). لقد كان عليه أن يختبر – في هذه المناسبة – وفي مواقف أخرى لاحقة، أن النجاح في خدمة الرب مستحيل بالانفصال عن الطاعة. وكما أطاع يشوع موسى سلفه في قيادة الإسرائيليين، ينبغي على المسيحي أن يكون جلّ مراده إرضاء الرب يسوع الذي يتشرف بأن يكون جنديًا له (٢تي٢: ٣، ٤).

ماذا في اسم يشوع؟

لنعرف شيئًا عن خلفية يشوع، نحن بحاجة لأن نرجع إلى سفر العدد ١٣. من هذا الأصحاح نعرف أنه ينتمي إلى سبط أفرايم، وأن اسمه الأصلي هو “هوشع” والذي يعني “مُخلِّص”. واسم أبيه “نون” الذي يعني “دوام”. وكم هو إذن اسم لائق بالقائد المُعيَّن من الله كمُخلِّص للشعب. لكن موسى لقَّبه باسم جديد: “يشوع”، الذي يعني “يهوه خلاص” (عد١٣: ١٦). لم يكن هو شخصيًا مُخلِّص الشعب، بل بالحري خلال مشوار حياته وخدمته، ظهر خلاص الرب. وبالنسبة لنا نحن اليوم، من الحيوي جدًا المثابرة في أمور الرب (١كو١٥: ٥٨)، ومثل يشوع يجب أن يظهر خلاص الله في حياتنا.

تأثير مبكر

كلنا – بدرجة أو أخرى – نتاج بيئاتنا. فتأثيرها علينا في بواكير حياتنا من شأنه أن يُشكلنا. ولا يُستثنى يشوع من ذلك.

في خروج ٢٤ نجد موسى يُدعى إلى محضر الرب مع هارون واثنين من بنيه وسبعين من شيوخ إسرائيل. كان عليهم الصعود إلى الجبل. ولكن كان على موسى بمفرده الصعود إلى نقطة أعلى للمثول في محضر الرب. وكان يشوع مساعده برفقته، وشهد لمحة من مجد الله بينما هو في انتظار رجوع موسى. هذه المناظر والأصوات المرتبطة بجلال الحضور الإلهي لا بد أنها تركت انطباعًا على يشوع.

بعدها مباشرة، بينما هو ينزل من الجبل في معية موسى، بدت قلة خبرته؛ فقد سمع صوت صياح وهتاف في المحلة، فأخبر موسى أن حربًا ناشبة أسفل، في حين أن موسى – رجل الله المُختبر – عرف شيئًا آخر: لقد صنع الشعب عجلاً ذهبيًا. والضجة التي سُمعت كانت صوت غناء واحتفال (خر٣٢: ١٧، ١٨). فليس دائمًا يكون المؤمن الحديث له التمييز والبصيرة الحادة. فثمة دروس مفيدة يمكن تعلّمها من رفقة مؤمن حكيم متقدم في الأيام.

وفي باكورة حياته كان يشوع وفيًا للغاية لموسى. فعندما ظهر في “أَلْدَاد ومِيدَاد” موهبة النبوة، انبرى يشوع – بعدم تمييز – مدافعًا عن ما ظنه منافسة لموسى، فارتأى أنهما ينبغي أن يصمتا. وانتهز موسى الفرصة لتعليمه رحابة القلب. لم يكن رأي موسى أبدًا أن يمنع أية موهبة، بل بالأحرى كان سعيدًا بأن يرى الآخرين الموهوبين (عد١١: ٢٦-٢٩). فالمؤمنون الأحداث كثيرًا ما يكونوا الأنانيين. ونحن بحاجة لأن نتعلَّم الروح السمحة التي تحلى بها موسى.

ملمح مهم في حياة يشوع الباكرة نراه في خروج ٣٣. فقد نصب موسى خيمته خارج المحلة، كنوع من الانحياز للرب ليسمع صوته. والذين يطلبون الرب كان عليهم الخروج إلى خيمته. أما يشوع – والذي يوصف بـ“الغلام” (خر٣٣: ١١) – فلم يكن يبرح مكان الاجتماع. لقد عرف أهمية المكوث هناك. وأي شاب يرغب أن يكون فعالاً في خدمة الله اليوم عليه أن يحذو حذو يشوع. وبحسب كلمات ترنيمة قديمة: “ينبغي أن نخلو طويلاً مع يسوع وحده”.

مكافأة الإيمان

أعظم اختبار ليشوع حدث عندما اُختير مع الأحد عشر رجلاً ليتجسسوا أرض كنعان. فقد قضى مع صديقه كالب، وعشرة آخرين، أربعين يومًا يمتحنون أرض الموعد قبل الرجوع ومعهم عنقود هائل من العنب. عشرة من الجواسيس كانوا متشائمين لافتقارهم للإيمان بالله. كان تقريرهم أن النصرة على العمالقة أمر مستحيل. رفض كالب رأيهم، وفي سفر العدد ١٤: ٨ نجد يشوع يُصادق على كلام كالب، فأكد أن الرب قادر على إدخالهم إلى كنعان، وعلى دحر كل أعدائهم. وقد مات العشرة جواسيس الباقون، في حين كان يشوع وكالب هما الوحيدان اللذان دخلا أرض الموعد من الأحياء وقتها. وهكذا كان يشوع بحق “ابن الدوام”. ونتعلَّم منه أن الإيمان لا بد أن يُكافأ. ومثله نحتاج إلى الصبر لننال كل الخير الذي وعدنا به الله (عب١٠: ٣٦).

راعٍ ... من فضلك!

لقد حاجج موسى الله طالبًا معاونين إضافيين. وأعطاه الله سبعين شيخًا ليُساعدوه في الاضطلاع بمسؤولياته. وقرب نهاية حياته كان لدى موسى قناعة بالاحتياج إلى إنسان له قلب راعي، ليعتني بشعب الله. وهكذا لم يكن من الغريب أن نكتشف أن الله قد أعد بالفعل رَجُله؛ ولم يكن هذا الرجل سوى يشوع. وإذ امتلأ من روح الله، قاد شعب الله عبورًا لنهر الأردن (عد٢٧: ١٥-١٨). وليس ثمة بديل عن الامتلاء بروح الله. ويُنبر أفسس ٥: ١٨ على حاجتنا للامتلاء الدائم بقوته.

والأعداد الختامية من سفر العدد ٢٧ تصف أول مناسبة فيها يضطلع يشوع – علانية - بإرساليته كقائد جديد للشعب. كانت لحظة فارقة، وتركت طابعها على بداية مسؤوليات يشوع الجسام. كيف يمكنه أن ينجح؟ هذا ما يُجيب عليه سفر التثنية.

بالنسبة لموسى أُغلق موضوع دخول أرض الموعد. ورغم أنه طلب من الرب ليسمح له بدخولها، إلا أن التماسه رُفض. على أن ثمة مهمة كان على موسى القيام بها؛ فقد أخبره الرب: «وَأَمَّا يَشُوعُ فَأَوْصِهِ وَشَدِّدْهُ وَشَجِّعْهُ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْبُرُ أَمَامَ هذَا الشَّعْبِ، وَهُوَ يَقْسِمُ لَهُمُ الأَرْضَ الَّتِي تَرَاهَا» (تث٣: ٢٨). وفي كلامه للشعب، والمُدوّن في سفر التثنية، نجد موسى يقوم بالدور ذاته. فليس فقط كان يُذكّر يشوع بمهامه الجسام، بل يهبه تشجيعًا شخصيًا «فَدَعَا مُوسَى يَشُوعَ، وَقَالَ لَهُ أَمَامَ أَعْيُنِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ: تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ، لأَنَّكَ أَنْتَ تَدْخُلُ مَعَ هذَا الشَّعْبِ الأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لآبَائِهِمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهَا، وَأَنْتَ تَقْسِمُهَا لَهُمْ» (تث٣١: ٧). وقد وجد كثيرون من المؤمنين في كلامه نبعًا لليقين، ومصدرًا لقوة عظيمة: «تَشَدَّدُوا وَتَشَجَّعُوا. لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْهَبُوا وُجُوهَهُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ سَائِرٌ مَعَكَ. لاَ يُهْمِلُكَ وَلاَ يَتْرُكُكَ» (تث٣١: ٦). فالرب مع شعبه، ونستطيع أن نعوّل عليه لأجل المستقبل المجهول.

لحظة حق

ما أن نفتح سفر يشوع حتى تطالعنا كلمات الرب الأولى للقائد الجديد، وهي مثيرة للدهشة: «مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَات» (يش١: ٢). وهي حقيقة جلية. فلماذا إذن يُخبر الرب يشوع بهذا الأمر الواقع؟! ببساطة، لأن الله يتعامل مع وقائع، يريدنا دائمًا أن نواجه الموقف كما هو في حقيقته.

كانت تلك نهاية حقبة! فموسى أكمل عمله، وحان الوقت لأن يتقدم يشوع ويخطو أولى خطواته حاذيًا رجليه بحذاء القيادة الجديدة. قد تكون هي المرة الأولى التي يتكلَّم فيها الرب مباشرة إلى يشوع. ويا لها من مناسبة تكلَّم فيها الرب! ربما يكون يشوع يشعر بالضعف والوحدة. فالشخص الذي طالما أعجب به، وطالما تطلع إليه، قد رحل. كان موسى قد شجعه حقيقة، ولكن كان أمامه الموقف: كيف يضطلع بمسؤولياته؟ حان الوقت ليعبر الأردن مع جميع شعب الله، وكان “الأُرْدُنُّ مُمْتَلِئًا إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ” (يش٣: ١٥). وكان عليهم امتلاك الأرض (يش١: ١-٣). ربما شعر يشوع بالضعف، ولكن كان امتيازه أن يتشدد ويتقوى (يش١: ١٨). ومن جانبه أظهر الطاعة القلبية التي لاحظناها في بداية هذا المقال. كان عليه أن يُطيع كل ناموس الله، وأن يلهج باستمرار في المكتوب. أما من جانب الرب فقد شجعه بكلمات مألوفة، سبق أن سمعها من موسى، ولكنها الآن تأتيه من فم الرب: «تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ» (راجع يشوع١: ١-٩).

هل تواجه مأمورية جديدة؟ أو هل تجد نفسك في موقف جديد؟ هل كنت تستند على دعامة كُسرت؟ هل رحل عنك شخص تُحبه وتُقدّره؟! تعلَّم من يشوع؛ الهج في كلمة الله، واحرص على طاعتها. اعتمد على وعود الرب التي لا يمكن أن تخيب. وكما كان الرب مع يشوع، سيُعينك لتواجه المجهول بجرأة وثقة.

مارتن جيرالد