أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2015
التأديب الأبوي
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لا شك أنه عند سماعنا كلمة “التأديب” يُصاب بعضنا بالخوف والجزع، نظرًا لأن كلمة “تأديب” قد انطبعت في أذهان الكثيرين من أولاد الله، بأنها نوع من العقاب، خاصة عندما تشعر ضمائرنا بالذنب بسبب أخطائنا، أو شعورنا بالتقصير من ناحية واجباتنا أو مسئولياتنا، مما يستوجب التأديب. على أننا عندما نعرف كلمة “تأديب” في معناها الصحيح، حتمًا سيعطي ذلك نورًا أوفر من جهة مفهومنا عن التأديب الأبوي.

فكلمة “تأديب” في اللغة اليونانية “بايدنيو” وهي تعني “التعليم والتدريب، التهذيب والتصحيح”. هذه هي معاني الكلمة، التي لا نرى فيها معنى العقاب، بل هي مدرسة الله التي يشترك فيها جميع المؤمنين عبر العصور، في كل زمان ومكان، إذ صار جميع المؤمنين شركاء في هذا التأديب (عب١٢: ٨).

فنحن جميعًا كأولاد الله، لاق بنا أن نتعلم ونتهذب، وذلك لأن الله أبانا يحبنا. فقبولنا للتأديبات الأبوية، إقرار واعتراف منا بأننا أولاده وأبناؤه، واعتراف منا أيضًا أن الله أبونا. أما عدم قبولنا للتأديب، يعبِّر من الناحية العملية تنصلاً من حقيقة أننا أولاد الله، وفي هذه الحالة، يقول الرسول: «فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ» (عب١٢: ٨)؛ أي أنتم أبناء غير شرعيين. وللوقوف على هذا الموضوع، نضع هذه الأفكار أمام أذهاننا من خلال هذه النقاط الست:

لماذا نؤدب؟

ما هي وسائل التأديب؟

ما هو هدف التأديب؟

هل هناك أوقات للتأديب؟

ما هو موقفنا من التأديب؟

ما هي نتائج التأديب؟

١. لماذا نؤدَّب؟

كما سبق وفهمنا أن معنى كلمة تأديب هي التعليم والتدريب، التهذيب والتصحيح. أما لماذا نؤدب؟ فالإجابة: «أَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟» (عب١٢: ٧).

ماذا يحدث لو لم يَقُم أب بتأديب أبنائه؟ لا شك أننا سننسب لهذا الأب عدم الأهلية للقيام بدوره ومسؤولياته كأب، وبالتالي، فإن يشوب هذا الأب النقص والتقصير، لأنه من دلائل كمال الأبوّة، هو قيام الأب بممارسة سلطانه الأبوي من جهة تعليم وتهذيب أبنائه.

فالله أبونا بقيامه بتأديبنا، يُظهر كفاءته وكماله في القيام بكل ما تقتضيه الأبوّة من نحونا، هذا ما يتعلق بالآب. أما من جهتنا نحن، فنحن نحمل بحسب طبيعتنا جسدًا رديئًا، وميول ورغائب فاسدة، وجموح في الأفكار والمشاعر، وناهيك عن الخوف والجُبن في أمور كثيرة. إذًا، فنحن نحمل في طبيعتنا ما يستلزم التأديب، كما أن ما يواجهنا من الخارج، يحتاج إلى التأديب. فالتأديبات تسمو بحياتنا، وذلك لكي نكون بحسب فكر الله، وأن نكون كُفاة لمواجهة المصاعب والتحديات.

٢. وسائل التأديب

يقول كاتب العبرانيين: «قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ ... أُولَئِكَ أَدَّبُونَا»، ولقد كان هذا التأديب «حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ»؛ أي بالأسلوب الذي يروق للأب الأرضي ويتفق مع طبيعته وشخصيته (عب١٢: ٩، ١٠). ولا شك أن هذا التأديب الذي يقوم به الآباء على الأرض، يشوبه الكثير من النقص. أما الله، فهو يتصف طبقًا لطبيعته وصفاته بالكمال، ولذلك نرى أن وسائل التأديب الإلهي تتصف بالكمال والحكمة. وفي العهد الجديد، توجد وسيلتان أساسيتان يقوم الله من خلالهما بعملية التأديب لكل أولاد الله.

الوسيلة الأولى: هي كلمة الله

الوسيلة الثانية: الظروف التي حولنا

والله يستخدم في هذا ثلاث ثلاث مستويات تتدرج في الشدة (عب١٢: ٥، ٦)، هي:

أ) الوعظ ب) التوبيخ ج) الجَلْد.

٣. الهدف من التأديب

إن الغرض الإلهي من هذه التأديبات وذلك التهذيب الروحي، يتجه نحو غرض وهدف رئيسي وهو المنفعة «لأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ» (عب١٢: ١٠)، وذلك لأن قلب أبينا المُحب يريد خيرنا وبركة نفوسنا لكي نجتني أعظم الفوائد من خلال هذه التدريبات بارتقاء مستوانا الروحي والأدبي، وذلك لكي نُشارك الله عمليًا في قداسته للعيشة بها هنا على الأرض. لأن حياة التقوى نافعة لكل شيء، إذ تعطي وعدًا بالحياة النافعة والمُفيدة في الحاضر، وفي المستقبل ستكون لحياة التقوى مُجازاة (١تي٤: ٨).

ولا شك أيضًا أن التقوى والقداسة تسهلان علينا مُعاينة الله في كل أمور حياتنا، ونحن كثيرًا لا ندرك مدى الفائدة التي ستعود علينا عن طريق اجتيازنا التأديبات الأبوية، لكننا عندما نعرف أن الغرض الإلهي لهذه التأديبات هو منفعتنا، سترحب قلوبنا بمثل هذه التدريبات الإلهية، خاصة عندما ندرك أن الباعث الحقيقي لهذه التأديبات، هي محبة الله الأبوية.

٤. مدة التأديب

إننا نفهم من قول كاتب العبرانيين، إن أباءنا الأرضيين أدبونا «أَيَّامًا قَلِيلَةً» (عب١٢: ١٠) أى منذ أن يُولد الطفل، وحتى يصير رجلاً مسؤولاً في الحياة، هذه هي الفترة التي يُعبِّر عنها الرسول بالقول: «أَيَّامًا قَلِيلَةً»؛ الفترة التي يقوم فيها الأباء الأرضيون بتأديب أولادهم.

أما من جهة فترة التأديب الإلهي لنا، فهي تشتمل على فترة حياتنا الزمنية على الأرض، منذ يوم ولادتنا ولادة جديدة، وإيماننا بشخص المسيح، حتى نهاية حياتنا على الأرض. إذًا فمدرسة الله مفتوحة ليل نهار، كل الأيام، وكل مراحل وسنوات العمر. على أننا في مدرسة الله، قد نحتاج في بعض الأحيان وفي ظروف خاصة، إلى دروس مُكثفة تزداد فيها جُرعات التدريب كَمًا ونوعًا، حسبما يرى أبونا الحكيم، وهذا ما جعل الرسول يقول بهذا الصَدَد: «أَمَّا أَخِيرًا» (عب١٢: ١١)، وهو الوقت الذي يراه الله مناسبًا لانتهاء هذا الدرس، حيث أن الثمر قد ظهرت بوادره.

٥. الموقف الصحيح من التأديب

إن الذين وُلدوا وعاشوا في أجواء أُسرية وعائلية لم يكن فيها لوالديهم المحبة والحكمة في التعامل معهم، كان هؤلاء الآباء سببًا في تكوين “عقد نفسية” في شخصياتهم. مثل هؤلاء قد يجدون صعوبة في قبولهم وتفهمهم لتأديبات أبينا الحُبية. لكن، ماذا تقول لنا كلمة الله بخصوص موقفنا الصحيح من التأديب الأبوي:

أ) الخضوع للتأديب (عب١٢: ٩)

إن كنا نَهَاب ونخضع لآبائنا الذين ولدونا في الجسد، وكان لهم سلطان على حياتنا الأرضية. فمن باب أولى، نخضع لله أبينا لأنه أبو أرواحنا، الذي ولدنا ثانية، ومنحنا حياة جديدة، فأصبح له أحقية تأديبنا كأولاده. ومن هنا لَزَم ووَجب علينا الخضوع.

ب) احتمال التأديب (عب١٢: ٧)

إن الموقف الصحيح من التأديب، هو عدم احتقار تأديب الرب؛ أي الازدراء به، أو تجاهله، أو رفضه (عب١٢: ٥). ولا شك أن رفض التأديب وعدم احتماله من الناحية العملية، تتمثل في رفض التجارب والآلام التي يقصد الرب من ورائها تهذيبنا، ورفض كلمة الله بالهروب من الاستماع إليها أو قراءتها، أو الازدراء بها عند سماعها.

ج) عدم الخوار (عب١٢: ٥)

عند اجتيازنا في التأديبات الإلهية، واحتمالنا إياها، يجب أن نواصل السير غير خائرين، لأنه مكتوب: «ولا تَخُر إذا وبّخك» (عب١٢: ٥)، لأننا عُرضة أن تُصاب نفوسنا بحالة من اليأس والفشل والشعور بأن نهاية كل شيء قد أتت، فتنهار النفس تمامًا. وهنا يتوقف المؤمن عن جهاد الإيمان والاستمرارية في مضمار الحياة الروحية، وهنا نحتاج إلى معونة الرب لكي نحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، وعيوننا مُثبّتة على رئيس الإيمان ومُكمله يسوع.

د) قبول التأديب (عب١٢: ١١)

إن قبول التأديبات الأبوية، يعني التفاعل مع تلك التدريبات للاستفادة من كل طُرق ومُعاملات الله معنا، حتى لو كنا نجتاز حالة الشعور بالحزن في ذلك الوقت، لأن التأديب لا يُرى أنه للفرح، بل للحزن. وإن كان إيماننا يستند على الرب في هذه التدريبات، ورجاؤنا فيه وانتظارنا له، فكل هذه، إنما تمثل قبولنا لهذه التدريبات الأبوية.

٦. نتائج التأديب

مما لا شك فيه أنه لا يوجد تأديب بلا فائدة أو نتيجة. والنتيجة التي يضعها الروح القدس أمامنا، هي هذه العبارة «أَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب١٢: ١١). فالقول ««أَمَّا أَخِيرًا» يُرينا أن الذي يحدد نهاية التدريب، هو الرب نفسه. وكما سبقت الإشارة، فنهاية الدرس تتحدد بظهور الثمر، وأما الثمر هنا «ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ».

إذًا فثمرة هذه التأديبات الإلهية، هي حياة السلام الذي لا يتزعزع صاحبه في ظل هذه الظروف، وليس معنى ذلك عدم الشعور بما يواجهنا، أو عدم إدراك لِما نجتاز فيه، بل هو ثبات القلب في المسيح، وعدم انكسار سفينة سلامنا، إزاء الأمواج الهادرة بأصواتها المُرعبة.

وقبِّلي أيدي أبٍ

يؤدب البنين

فإن تأديب العلي

للنفع بعد حين

فالآن لا تدرين ما

يصنعه الحكيم

بل سوف تعلَّمين أن

رب السماء رحيم



جوزيف وسلي