أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
الرموز تتكلم!

مذبح البخور (خروج30: 1-10)

إن دراسة الرموز في أي موضوع من موضوعات الكتاب المقدس الهامة هي دراسة ممتعة، ولقد قيل بحق إننا نرى العهد الجديد في العهد القديم مظلَّلاً، والعهد القديم في العهد الجديد مُعلَنًا.

ولدينا رمز جميل في العهد القديم عن الموضوع الذي نحن بصدده، أعني به ”السجود“، وهو ما ورد عن مذبح البخور الذي في القدس، في خيمة الاجتماع، مسكن الله الذي أقامه موسى النبي في البرية.  فكاهن العهد القديم كان يدخل إلى القدس، ليُصعد البخور، الذي كان يشتمُّه الله رائحة سرور. 

ولأن ”الله روح“، فإنه لا يمكن أن يسرّ بمجرد رائحة البخور العطرية.  ثم لأنَّ العهد القديم كان رمزًا للحقيقة التي أُعلنت في العهد الجديد، عن شخص ربنا يسوع المسيح وعمله (غلا4: 24؛ عب9: 9؛ 8: 1-5)، فإننا في البخور الذي كان يُصعده الكاهن، نرى رمزًا جميلاً لما يقدِّمه كاهن العهد الجديد في الوقت الحاضر، من كمالات وأمجاد ربنا المعبود، فيجد الآب سروره فيه، ذاك الذي شهد عنه أكثر من مرة، لما كان هنا على الأرض: «ابني الحبيب الذي به سررت» (مت3: 17؛ 17: 5).

في هيكله الكلُ قائلٌ مجد
لقد أُقيمت خيمة الاجتماع في البرية، وكانت تحتوي على سبع قطع (عدد الكمال)، تُحدِّثنا عن كمالات شخصه، وكفاية عمله.  في الدار الخارجية كانت توجد قطعتان، أولى تلك القطع هي مذبح النحاس، وكان تاليًا لمدخل الدار مباشرة، يليه المرحضة النحاسية، وهي مُقامة ما بين مذبح النحاس والقدس.  ثم في القدس كانت هناك ثلاث قطع، على يمين الداخل هناك مائدة خبز الوجوه؛ وعلى اليسار كانت المنارة الذهبية؛ وإلى الأمام، إلى قدام الحجاب الذي يفصل القدس عن قدس الأقداس كان مذبح البخور الذهبي، الذي سنتحدث عنه الآن.  وخلف الحجاب كان قدس الأقداس، وفيه كانت توجد آخر وأهم قطعتين، هما تابوت العهد، وغطاء التابوت الذهبي فوقه.
مما تقدم نفهم أن خيمة الاجتماع كان فيها مذبحان، الأول هو المذبح النحاسي في الدار الخارجية، والثاني هو المذبح الذهبي في القدس.  على المذبح النحاسي في الخارج كان تُقدَّم الذبائح المتنوعة، وعلى المذبح الذهبي في الداخل كان يتم إصعاد البخور.  وبينما كان يمكن لكل إسرائيلي الاقتراب من المذبح النحاسي، حيث يقوم الكاهن بتقديم الذبيحة التي أتى بها ذلك الشخص لله، فإن المذبح الذهبي كان حق الاقتراب إليه قاصرًا على الكهنة، لإصعاد البخور عليه. 

إن مذبح النحاس يصور لنا صليب المسيح، وفي الصليب تم حسم مسألة الخطية، فالله تمجَّد، ونحن الذين كنا بعيدين صرنا قريبين بدم المسيح (أف2: 13).  ثم كان يلي مذبح النحاس المرحضة النحاسية، ونرى فيها عمل الله في تطهيرنا أدبيًا، سواء التطهير الذي تم مرة واحدة وإلى الأبد، لحظة الإيمان القلبي بالمسيح، أو التطهير اليومي الذي نحتاج إليه نتيجة سلوكنا في هذا العالم الملوث (يو13: 10؛ تي3: 5؛ أف5: 26)، وبه نتأهل أدبيًا للوجود في محضر الله للسجود والتعبد. 

ومن هذا نتعلم أن مشكلة الخطية كان يُنتهي منها في الدار الخارجية، فالمشكلة قضائيًا تُسوّى عند مذبح النحاس، والمشكلة أدبيًا تسوى عند المرحضة النحاسية.  من ثم يمكن للكهنة الساجدين أن يتقدموا إلى القدس لتقديم سجودهم لدى مذبح البخور.

مذبحان في بيت الله
يختلف مذبح النحاس عن المذبح الذهبي في أن الأول يحدِّثنا عن إيجاد العلاقة بين الإنسان الخاطئ والله العادل القدوس، وبالتالي فإنه يرتبط به فكرة الموت وحتمية سفك الدم.  وهذا كله رمز لموت المسيح فوق الصليب وسفك دمه، وحصول المؤمن بهذا على الضمير المُطهَّر، وعلى كمال القبول في محضر الله.  وأما مذبح الذهب: فلا نجده مرتبطًا بما له علاقة بالموت وسفك الدم، حيث إنه لا يحدِّثنا عن إيجاد العلاقة مع الله القدوس، بل عن نتيجة هذه العلاقة الرائعة، إذ يحدثنا - بلغة الرمز - عن سجود القديس في الأقداس السماوية، وهو يرتبط بالرائحة العطرية فقط.

ومن الجميل أن نلاحظ أنه قبيل الحديث في خروج 30 عن مذبح البخور، حدّثنا الوحي في آخر أصحاح 29 عن مذبح النحاس، والمحرقة الدائمة التي كانت تُصعَد عليه.  فبعد إصعاد المحرقة الدائمة، كان الكاهن يدخل إلى القدس ليُوقِد البخور.  ولهذا مدلوله الجميل، وهو أن الكاهن كان يدخل إلى القدس في استحقاقات المحرقة التي التهمتها النار على مذبح النحاس.  فالله يريد أن يربط في فكرنا بين المذبحين، ومن حيث ينتهي الأول يبدأ الثاني.  فبعد أن التهمت النيران ذبيحة المسيح، وبعد أن تصاعد من موت الصليب - كالمحرقة - وقود رائحة سرور للرب، فإنه عندها - وليس قبل ذلك - أمكن تقديم السجود الحقيقي.

يمكن القول إن هذا هو الذي أخَّر ظهور الساجدين الحقيقيين آلافًا من السنين.  فما كان يمكن الدخول إلى محضر الله لتقديم سجودنا له، قبل أن تُقدَّم المحرقة الحقيقية، الذي هو ربنا يسوع المسيح، فأمكننا الدخول كساجدين على حساب كمالات ذبيحته فوق الصليب. 

لقد تأخر ظهور الساجدين الحقيقيين حتى أتى المسيح ومات ثم صعد؛ وبمجيء المسيح إلى العالم عرفنا الله حقَّ المعرفة (يو1: 18)، وأُعلن لنا اسم الآب (يو17: 6)، فأمكننا أن نسجد له.  ثم بموت المسيح فوق الصليب فُتح أمامنا طريق الأقداس السماوية، إذ انشق الحجاب (مت27: 50،51).  ثم بصعود المسيح إلى السماء أرسل إلى قلوبنا الروح القدس (يو16: 7)، ليكون هو قوة السجود الحقيقي.

من الجانب الآخر فنحن لا يمكننا أن نقدِّم السجود إلا على أساس المحرقة وموت الصليب.  بكلمات أخرى لا يمكن أن يكون البادئ هو الإنسان بل لا بُدَّ أن يكون الله هو البادئ.  ويمكن القول إنه في مذبح النحاس الله هو الذي قدَّم ونحن الذين تلقينا، بينما في مذبح الذهب نحن نقدم والله هو الذي يتلقى.  ففي مذبح النحاس نجد كيف لم يُشفق الله على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين (رو8: 32)، بينما في مذبح الذهب نحن الذين نقدم للآب شخص المسيح، باعتباره موضوع سجودنا. 

العلاقة بين المذبحين
نذكر فيما يلي بعض الفروق الهامة بين كل من مذبح المحرقة ومذبح البخور:

 بينما كلا المذبحين يتكون من خشب السنط، إلا أن المذبح الأول كان يُغشّى بالنحاس، بينما كان المذبح الثاني يُغشّى بالذهب النقي.  والنحاس (الذي هو أكثر المعادن تحمّلاً للنيران، يحدثنا عن بِرِّ الله وقضائه)، بينما الذهب النقي (أنقى المعادن وأثمنها) يحدِّثنا عن مجد الله.

 على المذبح الأول كانت تُقدَّم الذبائح الدموية المختلفة؛ بينما على المذبح الثاني كان يتم إصعاد البخور.  لهذا كانت مقاسات مذبح المحرقة كبيرة (5 أذرع × 5 أذرع)، لكي تتناسب مع الغرض المصمَّم من أجله، وهو وضع الذبيحة عليه؛ بينما مقاسات مذبح البخور صغيرة نسبيًا (ذراع × ذراع)، ليتناسب مع الغرض المصمم لأجله، وهو تقديم البخور. 

 المذبح الأول كان يقع في الدار الخارجية، ويمكن لكل عين أن تراه؛ بينما المذبح الثاني كان في الداخل، في القدس، ولا يتعامل معه إلا الكهنة.

 المذبح الأول كان أمام المدخل، بينما الثاني كان أمام الرب، أمام الحجاب؛ بمعنى أن مذبح النحاس كان أول ما يقابل الداخل إلى الخيمة، بينما مذبح البخور كان آخر قطعة قبل الحجاب.

 مدلول المذبح الأول هو المسيح فوق الصليب؛ ومدلول المذبح الثاني هو المسيح على عرش العظمة.  وكأننا في المذبحين معًا نتذكر قول المرنم: مات هنا عنا؛ كما يحيا لنا هناك.

 مذبح النحاس كان بدون إكليل، فالمسيح لما كان هنا على الأرض لم يكن له إكليل، إلا إكليل الشوك الذي ألبسه البشر لسيدنا سخرية واحتقارًا؛ وأما مذبح البخور الذهبي فكان له إكليل من ذهب، فيسوع الذي وُضع قليلاً عن الملائكة من أجل ألم الموت، نراه مكلَّلاً بالمجد والكرامة (عب2: 9).

 المذبح الأول يحدثنا عن إيجاد العلاقة بين الله والشعب، أي يحدثنا عن الصليب والمسيح فوقه باعتباره مخلِّص الخطاة؛ والمذبح الثاني يحدثنا عن تقديم السجود، حيث المسيح على العرش في السماء هو الكاهن الذي يقدِّم سجود المؤمنين للآب.

 ويمكننا أن نرى في رسالة رومية مدلول مذبح النحاس (الكفارة التي قدمها الله)، بينما في رسالة أفسس نرى مدلول مذبح الذهب (السجود الذي ينتظره الآب من أولاده).

ولكن رغم هذه الاختلافات بين المذبحين، فثمة ارتباط وعلاقة بينهما كالآتي:

 النار التي التهمت الذبيحة من فوق المذبح الأول هي التي كانت توقد البخور على المذبح الثاني.  فكأنّ النار تؤخذ من الواحد، لإصعاد البخور على الثاني.  فمن مذبح النحاس كانت المحرقات تتصاعد رائحة سرور للرب، ومن المذبح الذهبي كانت تتصاعد رائحة سرور أخرى للرب، هي سجود الكهنة في القدس.  إن موت المسيح على الصليب أدخل السرور لقلب الآب، والآن سجود المفديين يدخل السرور أيضًا إلى قلبه!

 وثمة ارتباط آخر بين المذبحين نجده في الدم الذي كان يوضع على قرون مذبح البخور مرة في السنة (خروج30: 10).  وواضح أن هذا الدم أُتيَ به من مذبح النحاس في الدار الخارجية.  والمعنى الروحي لذلك هو أن الفداء الذي تم على الصليب من ألفي عام، هو قوة السجود المسيحي وأساسه.  فلا عجب أنه سيعظم سجودنا في السماء إلى أبد الآبدين، إذ نرى المسيح خروفًا قائمًا كأنه مذبوح. 

 وارتباط آخر بين المذبحين نجده في عبرانيين 13، فالرسول يقول: «لنا مذبح، لا سلطان للذين يخدمون المسكن الأول أن يأكلوا منه» (عب13: 10)؛ هنا نرى المذبح الأول.  لكنه يُتبِع ذلك بالقول: «لنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب13: 15)؛ هذا هو المذبح الثاني، مذبح السجود.  إذًا فنحن لنا مذبح لنأكل منه، ومذبح آخر لنقدم عليه.
وحسن لو أننا دائمًا فكرنا: ماذا أخذنا من الرب؟  وماذا في المقابل نقدم له؟

مكان مذبح البـخور، ومدلول ذلك

أشرنا في ما سبق أن مذبح البخور الذهبي كان آخر قطعة في الخيمة قبل الحجاب، الذي يفصل القدس عن قدس الأقداس، مباشرة.  أي أن مذبح البخور لم يكن في قدس الأقداس، بل في القدس.  ولهذا معنى جميل، فطالما أن الحجاب قائم بعد، فما كان يمكن للساجد أن يَمْثُل أمام محضر الله القدوس.  ومع ذلك، فإنه في يوم الكفارة العظيم، نجد كيف كان البخور يُقدَّم في قدس الأقداس.  وكان هذا إرهاصًا لما نتمتع نحن به الآن، بعد أن قدم الله ربنا يسوع المسيح كفارة (رو3: 25).  إنه امتياز لنا في الوقت الحاضر، على أساس كفارة المسيح، أن ندخل كساجدين إلى الأقداس لتقديم سجودنا في حضرة الله نفسه (عب10: 19-22). 

ولهذا فإنه يُقال عن هذا المذبح إنه ”أمام تابوت الشهادة“ (خر30: 6؛ 40: 5)؛ وأنه ”أمام الرب“ (لا4: 7،18؛ 16: 18)؛ وأنه ”أمام العرش“ (رؤ8: 3).  فهذا الحجاب كان مرحليًا، وكان سيُبطَل في المسيح.  ومن هذا المكان الذي كان يشغله المذبح الذهبي، يمكننا أن نفهم ما للسجود من تقدير وأهمية عند الله.  لقد كان امتيازًا عظيمًا لكاهن العهد القديم أن يقف أمام المذبح الذهبي ليقرِّب بخورًا في أنف الله (تث33: 10)، وأما نحن فلنا الحقيقة لا مجرد الرمز.

وعليه، فيمكن القول، بدون أدنى مبالغة، إن السجود هو أسمى امتياز للمؤمن في الوقت الحاضر، كما أنه قمّة ما يطلبه الآب.  لقد قال المسيح إن الآب طالب ساجدين (يو4: 23).  ونحن لا نقرأ في أي مكان آخر في الوحي أن الآب يطلب أي شيء على الإطلاق.

ثمة دروس أخرى نلتقطها من مكان مذبح البخور الذهبي.  لقد كان إلى جوار المذبح الذهبي في القدس من الجانب الواحد توجد المنارة الذهبية، ومن الجانب الآخر توجد مائدة خبز الوجوه.  في المنارة يمكننا أن نرى عمل الروح القدس الذي يضيء لنا أمجاد المسيح المتنوعة، ويقودنا لمزيد من المعرفة والتقدير له.  فعلى قدر نموّنا في معرفة أمجاد فادينا وسيدنا يمكننا أن نزداد في السجود لربِّنا المعبود.  لكن في القدس كانت هناك أيضًا المائدة بطعامها المُشبع، الذي من حق الكهنة وحدهم الأكل منه.  وهكذا على قدر ما نتغذى على شخص المسيح، يمكننا أن نقدم سجودًا مُشبعًا لقلب الله أبينا ولقلب المسيح فادينا.  ونحن نلاحظ أن السجود كثيرًا ما ارتبط بالشبع (ارجع إلى تثنية 8: 10؛ مزمور22: 29).  والأمر عينه نجده في عبرانيين 13: 10،15.  فالسجود هو فيض قلب شبعان بالمسيح. 

محاذير هامة
يرتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع تقديم البخور العطر، أننا نجد في كلمة الله ثلاثة محاذير هامة كان يجب مراعاتها بكل دقة، منها اثنان مذكوران في سفر الخروج 30: 9؛ والثالث مذكور في لاويين 10، وهذه المحاذير هي:

E لا تُصعِد على المذبح بخورًا غريبًا.
E لا تخلِط بينه وبين مذبح المحرقة.
 Eلا تستخدم في تقديم البخور نارًا غريبة.

أولاً: البخور الغريب.  إن البخور الحقيقي، الذي كان يُصعَد إلى أنف الله، يكلّمنا عن كمالات المسيح.  وبالتالي فإن سجودنا وتسبيحنا ينبغي أن يكون عن شخصه وصفاته وكمالاته، ولا شيء بخلاف ذلك.  وأي شيء ننشغل به في السجود غير المسيح يعتبر بخورًا غريبًا. 

الكتاب المقدس يقرِّر بكل وضوح أن السجود لا ينبغي أن يكون لغير الله (خر20: 3-5؛ لو4: 8)؛ كما أن هناك نهيًا صريحًا وقاطعًا على أنه لا يجوز السجود قط لإنسان، ولو كان رسولاً (أع10: 25،26)، أو حتى لملاك (رؤ19: 10؛ 22: 8،9).  السجود لله وحده.  وكما السجود هكذا التسبيح، فالتسبيح بحسب كلمة الله هو ”ثمر شفاه معترفة باسمه“ (عب13: 15).  لهذا كله فنحن لا نسجد لقديسين، أحياء أو موتى.  ولا نقدم التسابيح والمدائح لشخص آخر غير المسيح نفسه. 

وفي رؤيا 5 نقرأ عن سجود القديسين في السماء.  إنه السجود النموذجي.  ونلاحظ أنه يدور حول شخص المسيح وعمله فوق الصليب.  «وهم (أي جماهير المفديين) يترنمون ترنيمة جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك، من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلتنا لإلهنا ملوكًا وكهنة، فسنملك على الأرض» (رؤ5: 9،10).  وهكذا نجد أن سجود المفديين النموذجي في المساء هو عن المسيح وعن صليبه.  تمامًا كما قال الرسول بولس هنا على الأرض، إني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم، إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا (1كو2: 2).

ثانيًا: لا محرقة أو تقدمة أوسكيب تُقدَّم على مذبح الذهب.  بمعنى أنه لا يجوز الخلط بين المذبحين، مذبح النحاس ومذبح الذهب.  أو بالنسبة لنا لا يجوز أن نخلط الصليب بالعرش، فالخاطئ يحتاج للصليب، والمؤمن للعرش.  ثم إن مَنْ لم يُدرك خلاصه، كيف يقدر أن يسجد؟  لما سألت المرأة السامرية الرب عن السجود، فإن المسيح قبل أن يحدثها عن السجود أشار إلى الخلاص (يو4: 22)، فالخلاص دائمًا ينبغي أن يسبق السجود.  ولذا فإنه أمر يدعو للدهشة أن ندعو البشر في كل الأرض أن يُغنّوا للرب، بينما الغالبية العظمى من البشر هم أولاد إبليس!  كيف يغنوا للرب قبل أن يخلصوا؟ 
ومن الجانب الآخر لا ينبغي في فرص السجود أن ننشغل بخطايانا، بل ينبغي أن ننشغل بشخصه وعمله وأمجاده المتنوعة.

ثالثًا: لا نار غريبة تستخدم لإيقاد البخور.  إننا نقرأ عن النار الغريبة في لاويين 10، وكيف كان من نتيجتها أن خرجت نار من عند الرب وأكلت ابني هارون.  وبمقارنة ما ورد قبل هذا الحادث، وما ورد بعده، يمكننا أن نفهم الأمور بصورة أفضل.  فقبل أن يخبرنا عن النار الغريبة التي وضعها ابنا هارون في مجمرتهما، ذكر أن نارًا من عند الرب خرجت وأحرقت على المذبح المحرقة (لا9: 24).  وبعدها مباشرة يذكر لنا أن ابني هارون قدما نارًا غريبة.  ومن هذا نفهم أن المقصود بالنار الغريبة نار ليس مصدرها الرب. 

ثم بعد هذه الحادثة مباشرة يرد التحذير لهارون وبنيه ألا يشربوا الخمر والمسكر، عند دخولهم إلى خيمة الاجتماع.  فيبدو أن ابني هارون اللذين ماتا، لم يكونا في كامل وعيهما، وأنهما كانا تحت تأثير الخمر، فلم يميّزا النار التي يجب أن يأخذاها، فماتا في الحال. 

وحيث أن الوحي الكريم عقد مباينة بين الخمر والروح القدس في أفسس 5: 18 فإننا نفهم أننا لا يجب أن نكون تحت أي تأثير آخر، بخلاف تأثير الروح القدس، ليمكننا أن نقدِّم لله سجودًا مرضيًا ومشبعًا له. 

لذلك فإننا لا نعتبره مظهرًا روحيًا على الإطلاق، ما اعتادت الكثير من المجموعات المسيحية من ممارسته في فرص الترنيم، من موسيقى صاخبة وآلات إيقاع تثير الحماس الطبيعي والانفعالات الجسدية.  هذه بكل يقين ليست نارًا من عند الرب، بل هي نار غريبة.  نعم علينا أن نحذر من الخمر قبل السجود، علينا أن نحذر مما يثير الانفعالات والعواطف الجسدية، ويجعلنا هائجين، والبعض يسقط على الأرض في انفعالات زائدة.  هذه كلها نار غريبة لم يأمر الرب بها.  فقوة السجود هو الروح القدس، وأي شيء لا ينشئه فينا الروح القدس، بل نستمده من مصادر أخرى يُعتبر نارًا غريبة.  إن الروح القدس يقودنا إلى تعظيم المسيح.  فنحن ”نسجد بروح الله، ونفتخر (نفرح) في المسيح يسوع، ولا نتكل على الجسد“ (في3: 3).
إن النار التي أكلت الذبيحة عند مذبح النحاس هي بعينها التي كانت توقد البخور على مذبح الذهب (لا 16: 12،13).  وكما أن النار التي من فوق مذبح المحرقة هي التي كانت تسبِّب تصاعد البخور فوق مذبح الذهب، هكذا فإن قديسي الله من صليب الجلجلثة يستوحون تسبيحاتهم للفادي.  وإن لم يكن كذلك فإنها نار غريبة لم يأمر بها الرب، والرب لا يطيقها على الإطلاق. 

يا شعب الرب، اسجد!

نذكر في الختام بعض الملاحظات بخصوص مذبح البخور الذهبي، فالوحي يذكر لنا عدد قرون مذبح النحاس أنها أربعة (والرقم 4 هو رقم الأرض)، لكنه يغفل ذكر عدد قرون مذبح الذهب.  والمدلول لذلك أن الكفارة هي لكل العالم، وأما السجود فهو سماوي صرف، ولا علاقة له بالأرض.  فخدمة المسيح باعتباره مذبح البخور هي في السماء لا على الأرض.  وسجودنا نحن هو في الأقداس السماوية.  وعليه فإنه يمكن القول إن لحظات سجودنا تأخذنا إلى جو الأبدية، وسجودنا ينقلنا من متعلقات الأرض إلى جو السماء نفسه!

شيء أخير أختم به ملاحظاتي: فقد سبق أن أشرت إلى الفارق بين مقاسات مذبح النحاس ومقاسات مذبح الذهب.  فإذا أخذنا في الاعتبار أيضًا ارتفاع كل من المذبحين، سنكتشف أن مذبح النحاس كان أكبر بكثير من المذبح الذهبي.  وهذا يُخرجنا بفكرة هامة، وهي أننا مهما سمونا في سجودنا، لا يمكن أن نصل مطلقًا إلى التقدير الكافي والنهائي لعمل المسيح فوق الصليب. 

ولقد كان هذا دائمًا شعور القديسين عبر الأجيال، فعبَّر عنه واحد بالقول:

يا ليتَ لي ألفَ لسانْ
  لأحمدَ الفادي

لقد أحسّ أنّ لسانًا واحدًا لا يكفي، فتمنى أن يكون له ألف لسان يخصصها كلها لمدح الحبيب.

وقال آخر:

لكن أمامَ موتِك
  بالصلبِ والعارِ المهين

ليس يفيكَ سُبحُنا
  لو قُدِّمَ طولَ السنين

فلو توقفنا عن كل عملٍ آخر، وتفرغنا فقط لتقديم السجود له، فلن يكون ذلك كافيًا.

وأما عن الفارق الكبير بين ما قدّمه المسيح وما نقدمه نحن فعبَّر عنه ثالث بالقول:

يا ربُ قد أحببتني
  بحبِك العجيبْ

حُبي إزاء حُبِك،
  لا شيء يا حبيب

ونحن نقرأ فكرًا مشابها لهذا في سفر النشيد، حيث يرد القول: «إلى أن يفيح النهار، وتنهزم الظلال، أذهب إلى جبل المر، وإلى تل اللبان» (نش4: 6).  لاحظ الفارق بين جبل المُرّ وتل اللبان.  فمهما ارتقينا في السجود فلن يزيد عن كونه ”تل اللبان“، بينما آلام سيدنا الحبيب هي بمثابة ”جبل المر“!

شبَّه أحد الأفاضل هذا الفكر بما يعرفه جيدًا الزائر لشلالات نياجرا في كندا، تلك الشلالات العظيمة والتي فيها تصب المياه بغزارة، سنة وراء أخرى، ويوما بعد آخر، بلا توقف كل ساعات الليل والنهار.  ويلحظ الزائر لتلك الشلالات رذاذًا من المياه على هيئة سحابة فوق الشلالات، تعكس في النور قوس قزح جميلاً.  هذه السحابة المتصاعدة من الرذاذ إنما هي من مياه الشلالات عينها.  لكن طبعًا ليس كل ما يصب في النهر يرتفع في هذا الرذاذ، بل شيء قليل جدًا منه.  وهكذا سجودنا للرب الذي يرتفع إلى فوق، إنما هو قبس ضئيل من فيض عطايا الله وإحسانه غير المحدودة، والمنسكبة علينا.

لذلك فإني مرة ثانية أكرر: يا شعب الرب اسجد!

يوسف رياض