أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
ليعيدوا لي في البرية

حتى ما تُعطينا مصر هذا الطابع الذي جعل الرب يُعلن قضاءه ودينونته عليها، كان لا بدَّ أولاً أن تحوز على البركة من خلال يوسف، لأنَّ احتقار البركة أو إهمالها هما اللذان يُكمِّلان مكيال الإثم، كما قال الربّ: «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطيَّة.  وأمَّا الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي» (يو15: 24)، أي أنَّهم احتقروا غنى محبَّة الله وصلاحه.  وعلى هذا المنوال نضجت خطية الخائن يهوذا ببقائه غير متأثِّر باللُّقمة التي أخذها من الربِّ؛ علامة الإعزاز الشخصي.  وهكذا فلقد قام مَلك آخر «لم يكن يعرف يوسف».  لقد نَسيت مصر إحسان الله إليها من خلال يوسف، وبالتالي كَمُلَ مكيال إثمها، ونضجت للدينونة.  فلولا خدمة يوسف السَّابقة لم يكن معيار إثمها ليكَمُل، وكذلك العالم الآن مُهيَّأ بالخطيَّة، لأنَّه لم يؤمن بالربِّ يسوع، وهذا يجعل مصر نموذجًا واضحًا للعالم.

وعلينا أن نفهم أنَّ الخروج من مصر هو بمثابة انفصال شعب الله عن العالم!  ولقد لفت نظري مُؤَخَّرًا هذا الأمر، أنَّه كان على إسرائيل أن يخرجوا من أرض مصر حتى يعبدوا الربّ ويُعيِّدوا له (خر5: 1؛ 3: 18؛ 8: 1،20؛ 9: 1،13؛ 10: 3،9)؛ لأنَّهم لن يستطيعوا أن يعبدوه ويذبحوا له في أرض عبوديَّتهم وأمام هؤلاء الناس (خر8: 25-27)، لأنَّ خدمتهم الدينيَّة كانت ذات طبيعة لن تَقدِر مصر على تحمُّلها. 

كانت ممارساتهم تتجاوز تمامًا كلّ تصورات هؤلاء القوم، والذين ما كانوا ليتوانوا في أن يضطهدوهم ويقضوا عليهم إذا شاهدوا مثل هذه الأمور.  ولذلك كان لا بدَّ لهم أن يخرجوا.

والآن، يا لها من خاصيَّة تُعطيها هذه الحقيقة البسيطة عن مصر أو العالم!  وهي أنَّ الله ليس له مَقدِس هناك.  إن أفكار هذه الأرض وطرقها  كانت مخالفة تمامًا للربِّ، حتى أنَّه ما كان يستطيع أن يُقيم شهادة لاسمه في وسطهم.  فكان على شعبه أن يخرج أوَّلاً قبل أن يستطيع تشييد هيكله أو إقامة مذبحه، لأنَّ مصر اعتادت على عبادة الأشياء نفسها التي سوف يذبحها إسرائيل أو يصلبها (خر8: 26،27).  فلا بدّ لإسرائيل أن ينفصل عن مصر قبل أن يُعيِّد للربّ!

وكان هذا هو أيضًا حالهم بعدما دخلوا أرض كنعان.  كان هناك سور حول كل الأرض المقدَّسة، حائط السياج الذي يفصل إسرائيل عن الأمم.  فلا يستطيع غريب أن يأكل من الفصح، ولا يستطيع شخص غير مُختتن أن يُعيِّد عيد الربّ، وهكذا الأمر معنا إلى يومنا الحاضر.  فنحن يجب علينا الآن أن نسجد للآب ”بالروح والحق“.  لا يوجد من يستطيع أن يدعو الآب بطريقة صحيحة إلاَّ عن طريق الروح القدس، روح التبنِّي، وليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربّ إلاَّ بالروح القدس.  فما زال الله - على مبدأ الانفصال - يُعبَد ويُخدَم، مثلما كان على إسرائيل أن يذهبوا إلى البريَّة، خارج مصر، أو أن يُميِّزوا أنفسهم عن باقي الأمم بالختان، حتَّى يعبدوا الربّ ويخدموه.

وإن كان علينا أن نُدرك أنَّ حائط السياج الذي يفصلنا الآن عمَّا حولنا مختلف؛ وهذا صحيح، كما أنَّ المكان الذي نخرج إليه ليس مجرَّد برية؛ وهذا أيضًا صحيح، لكن يظل مكان العبادة مُتميِّزًا تمامًا كما كان من قبل.  «ينبغي أن تولدوا من فوق» (يو3: 7)؛ «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يو6: 29)، «الذي إذ تأتون اليه حجرًا حيًّا ...  كونوا أنتم أيضًا مبنيِّين كحجارة حيَّة بيتًا روحيًّا كهنوتًا مُقدَّسًا» (1بط2: 4،5).

هذه هي البرية الآن، المكان المنفصل، مقدس الله؛ والتي هي داخل حائط السياج.  ولقد أقامها الروح القدس الآن، كما أنها تتكوَّن بالاتِّحاد مع المسيح؛ وداخل هذا المكان يتم ذبح رجاسات العالم، كما كان يُذبح رجس المصرين قديمًا في البرية.  فيجب صلب كل ما هو في العالم، من شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة. 

وما هو العيد الكامل الذي عيَّده إسرائيل عندما خرجوا إلى البرية؟  إن الذي هيأ هذا العيد لهم كان هو مصر نفسها.  فحالما وقفوا على شاطئ البحر الأحمر ابتدأوا يُعيِّدون عيدهم!  لم ينتظروا حتى يصلوا إلى الجبل (خر3: 12).  صحيح تمامًا أنَّهم عبدوا وذبحوا للربّ بعد ذلك أسفل هذا الجبل (خر19-40؛ لا19).  لكن مصر نفسها أعطتهم ترنيمة قبل أن يصلوا إلى المكان المقصود.  كانت لمصر من الجراءة ما يكفي لمقاومة الشعب وملاحقتهم حتَّى فكيّ البحر الأحمر لمنعهم من الفكاك.  كانت عداوتها شديدة؛ لكن كل هذا قد انتهى بإعطاء شعب الله ترنيمة النصرة على مصر (خر15)!!

كان هذا الفرح من نصيبهم قبل أن يصلوا إلى المكان الذي دُعوا إليه، وهذا ما حدث أيضًا معنا أيَّها الأحباء.  فالشيطان فعل أشرّ ما عنده، لكن الربّ يسوع هزمه بالموت والقيامة، ألم يَجرُّ الشيطان مركباته وخيله، كل قوَّة وقدرة مملكته إلى موضع الجلجثة؟!  ولذلك فالترنيمة التي وضعتها القيامة في أفواهنا ما كانت لتصبح من نصيبنا، ولكنها صارت نصيبنا من الآن، ولن يستطيع الشيطان إسكاتها أبدًا.  نعم ..  لقد كان الشيطان سببًا فيها، ولكنَّه لن يستطيع إسكاتها أبدًا، ونحن أيضًا نحمل صداها في قلوبنا في المكان كلَّه، حتَّى نصل إلى جبل الربّ.  وبهذه الكيفيَّة، كما أعطت مصر الترنيمة لإسرائيل، هكذا أعطى إله هذا الدهر هذه الترنيمة لقلوبنا، لأنَّ الآكل نفسه أخرج أُكلاً، ومن الجافي خرجت حلاوة!!

ودعني أُضيف، أنَّ ما يفصلنا عمليًّا يومًا بعد يوم عن العالم هو الشركة مع الربّ يسوع.  فإن كنَّا نرى في: الإيمان بالربِّ يسوع، وسكنى الروح القدس، ونوال الطبيعة الجديدة، الخروج الأوَّل العظيم، أي ذهابنا الأوَّل في البريَّة خارج مصر لنُعيِّد عيدنا للربّ، والذي يُمثِّل عمليَّة انفصالنا عن العالم، إلاَّ أنَّنا لا يُمكننا المحافظة على مكان الانفصال هذا يوميًّا إلاَّ عن طريق الشركة مع الربّ يسوع، بواسطة الروح نفسه الذي فصلنا أوَّلاً للخارج.

يوحنا بللت