أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
مقوّمات السجود

في الإنسان نزوع طبيعة لتقدير القوة وتقديسها، والوقوف برهبةٍ ورعبٍ، أمام الأمور المجرَّدة الخفية، فيتصورها عظيمة، جبارة؛ ويرى ذاته إزاءها صغيرة.. صغيرة.

أفضى هذا إلى العبودية، والتعبُّد العشوائي، والسجود المشوَّش؛ ولم يُدرك الروحاني والمعنوي، لأنه غريق غياهب الجهل.  فتقوقع في عيانية الحواس، ومحسوس المادة؛ فسجد لها خائفًا..  مقدِّسًا..  عابدًا.  واكتظّت الساحات والزوايا بالتماثيل والأصنام.

لكنَّ السجود الحق، يتكرَّس بالعلاقة الروحانية العقلانية الواعية، بين الإنسان والله: عبادة..  خضوعًا..  اعترافًا بغنى الله اللامحدود، وصغر الإنسان الذي يتخطى الحدود.

هذا الفارق الأبعد، والبون الأوسع، والهوة الأعمق، منعت الوصول إلى الله.  لكنَّ ارتفاع الرب يسوع المسيح على الصليب، وموته الكفاري فداءً، فتحا الطريق إلى الله، كما يذكر الرسول في الرسالة إلى العبرانيين «فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرَّسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب أي جسده» (10: 19،20).

يستند السجود المقبول أمام الرب، واللائق به، إلى مقوِّمات تتوفر بالساجد لمجد الله، متمتِعًا بالبركات السامية في الحضرة الإلهية؛ من هذه المقومات:


1- الإعلان الإلهي
لا ينبع السجود من فكر الإنسان واستحسانه، مرتكِزًا على قواعد وأنظمة من نتاج بشري، أو على ترتيبات تضعها جماعات دينية، في قوالب جامدة، فتضحى تقليدًا وعادات تكرَّر، خاليةً من الفكر الإلهي، وعمل الله في الإنسان.  هذه العبادة شبيهة بالعبادة الوثنية، القائمة على تكرار الكلام باطلاً.  إن جميع هذه الأمور بعيدة جدًا من السجود الحقيقي.  فكل سجود لا يُقاد بروح الله، وليس باسم المسيح، فهو عملُ إنسان، لا علاقة له إطلاقًا بالسجود. 
2- الرغبة الصادقة
يغمر السجود قلبًا مُفعَمًا بالحنين الى الرب والمكوث في حضرته، شغوفًا بحب عميق له؛ طلبًا للشركة والتمتع والفرح.  فهو ليس وليد ظروف وتقلباتها، ولا نتيجة حوادث تواجه الإنسان؛ إنما هو عملُ تطوع من قلب راغب، كما يذكر سفر المزامير «هلمَّ نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا، لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده» (مز95: 6-7).  و«علّوا الرب إلهنا واسجدوا عند موطىء قدميه، قدوس هو» (مز99: 5).  وليس هو عملاً قسريًا، إنما بنفس راغبة «فبكَّر إبراهيم صباحًا» (تك22: 3).
3- تقديم الأعزّ
القلب الساجد مليء بالشكر، مغمور بالحمد؛ لا يحضر أمام الرب فارغًا، بل تمتليء اليدان بركات فياضة، أسبغها الرب على الساجد، بركات باكورية مُبكِّرة؛ هي أول ثمر الأرض، كما يذكر سفر التثنية «فتأخذ من أول كل ثمر الأرض الذي تحصّل من أرضك التي يعطيك الرب إلهك، وتضعه في سلة وتذهب الى المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه» (تث26: 2).  وكما يقول في سفر الأمثال «أكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك» (أم3: 9).
أما في العهد الجديد فنقدِّم فجر الوقت، وفتوة الطاقة، وذهب التقدمات المادية، وتضحيات الخدمة. 
ويرافق هذه التقدمات إقرار صادق، صريح، واضح، علني، إنها ليست وليدة الذكاء والدهاء، والجهد والدأب، إنما هي عطية الرب؛ كما يذكر الساجد قديمًا قائلاً «فالآن ها أنذا قد أتيت بأول ثمر الأرض التي أعطيتني يا رب» (تث26: 10).  وداود الملك في نشيده الأخير يعترف، بأن كل الغنى والبركات هي من الرب، مُقرًّا بقصوره وقصور شعبه قائلاً: «ولكن من أنا، ومن هو شعبي، حتى نستطيع أن ننتدب هكذا، لأن منك الجميع، ومن يدك أعطيناك» (1أي29: 14). 
وهناك صورة سجود بديعة، تحتوي المعنى الأكمل، والمكان الأفضل، والرمز الأجمل، للشخص الأروع والأبرع.
تقديم الابن، الوحيد،  المحبوب، إسحاق.
الابن الأقرب،  الوحيد الأغلى، المحبوب الأعز، إسحاق الأبقى.
* بكَّر ابراهيم:    إرادة وطواعية.
* ذهب وإسحاق:    إتفاق وسجود.
* أين الخروف؟    تقدمة وغلاوة.
* مد يده ليذبح ابنه:    حب وإيمان.
4- الانفصال إلى الله
للتمتُّع بسجود تقوي، على الساجد أن ينفصل عن العالم: روحًا ونفسًا وجسدًا؛ طارحًا الهموم والغموم، الأعباء والأرزاء.  «رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد» (تك22: 4).  وابتعد وإسحاق عن الغلامين ”فذهبا كلاهما معًا“ (ع6).
عندما طلب الرب من موسى وهارون والشيوخ الصعود أمامه، ليكلم موسى دون هارون والشيوخ؛ وبعيداً من الشعب، «وقال لموسى اصعد إلى الرب أنت وهارون وناداب وأبيهو، وسبعون من شيوخ إسرائيل.  واسجدوا من بعيد.  ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون.  وأما الشعب فلا يصعد معه» (خر24 :1). 
فالسجود هو انفراد الله بالساجد، وانفراد الساجد بالله. 
كذلك عندما أُعطي موسى الوصايا العشر، كان مع الله، وحيدًا، بعيدًا، على قمة سيناء؛ ومكث ساجدًا أربعين يوماً ليل نهار.  (خروج ص 34). 
هذا الوقت الطويل غيَّر صورة موسى، إذ غدا وجهه قَبَسًا من نور الله، فراح يلمع لمعانًا، فانبهر هارون والشعب وخافوا.
إن التمتع العميق في شركة سجود مع الرب، يغيِّر الصورة، يلمِّع الشخصية، يجمِّل الوجه، ينير الحياة.
في أول كل أسبوع، يتحلق المؤمنون حول الرب يسوع المسيح - الرأس والرئيس - سجودًا وتعبدًا؛
   فيملأ جلاله المحفل، ويزيّن جماله المكان،
      وترتسم صورته: متألمًا.. مذبوحًا.. مائتًا. 
         وتبرز محبته الشارية.. الفادية.. الباذلة. 
             ويخطف الكيان، متأملاً إكمال العمل: إنقاذًا.. فداءً.. خلاصًا. 
فيختلج القلب حمدًا وشكرًا، وينطلق اللسان تسبيحًا وترنّمًا: «ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي، كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو» (مز116: 12،13)، وأيضاً «فلنقدِّم به كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب13: 15).
5- نكران الذات
عندما يحمل الإسرائيلي باكورة ثمر الأرض، ليقدمه للرب (تث26)، يعترف بعدم أهليته واستحقاقه، لأنه صفر اليدين، خالي الوفاض؛ فالأرض من الرب هبة حبه، والجنى سخاءُ عطائه، ووفرة الغلال وسعُ كرمه.  ويفصِّل حالته البائسة اليائسة، أن ليس له أي حق، لا بالوراثة لأن أباه كان راعيًا تائهًا، ولا بالسكن إذ كان في ضياع التيهان (عد5). 
عندما يقترن السجود بنكران الذات، وعدم الافتخار، ويرتدي ثوب التواضع ومسكنة الروح، ينتفي كل مجهود بشري؛ ويكون الفضل، كل الفضل، للنعمة الغنية؛ عند ذاك، يلمع السجود حقيقة مُثلى وعميقة في حياة الفرد والجماعة.
كما يذكر قرار الترنيمة:
لا شيء فيَّ لا شيء مني
  الكلُ مِنْ فضلِ حبِّه

الرب تُرسي وهو مجنّي
  حقي وبري أحيا بِه

6- تمجيد الله
إن المقومات الأربعة، أكدّت صورة سجود يليق بالرب ويمجده، كما يذكر المرنم «هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا» (مز95: 6-7)، وأيضًا «اسجدوا للرب في زينة مقدسة» (مز97: 9)، وأيضًا «علّوا الرب إلهنا، واسجدوا عند موطىء قدميه، قدوس هو» (مز99: 5).
هذا السجود، يعتبر الرب أسمى من أي شيء في الحياة، ومتقدِّم على كل أمر، ويستحق الكيان والقلب، وإن رضاه هو الهدف والأرب والغاية.
كان إبراهيم صراعًا بين موقفين: إما أن يطيع الرب مقدِّمًا إسحاق، أو أن يرفض ويبقيه.  لكن الرب كان أغلى من أي عزيز وحبيب في حياة إبراهيم، حتى إسحاق الوحيد؛ وإن قيمة الرب لديه لا تُحَدّ ولا تُقاس.
«ثم مَدّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه» (تك22: 10). 
والسجود الطوعي ينبع من قلب شغوف بالرب، فَرِح في طاعته، يشتاق الاقتراب والالتصاق به، دؤوبًا في فعل رضاه، وإن الفكر والإرادة رهن مشيئته.
7.  إنسكاب بركات
إن الساجد الصادق، الذي يتخلى عن كل غالٍٍ نفيس، متخلِّصًا من عالقات الأرض ونوازع النفس وأهوائها وشهواتها؛ يبدو شفيف الروح، طهور الجسد؛ تنهمر عليه بركات الرب، نذكر بعضها:
أ ) عظمة البركة: «بذاتي أقسمت يقول الرب» (تك22: 16). 
تكمن عظمة البركة بالقسم بذات الرب، لذا فالبركة مساوية لذات الرب.  وعندما يتكلم الله ذاته، يترسّخ الوعد، ويوطّد العهد، ويؤبّد الصدق.
ب) تأكيد البركة: «أباركك مباركة» (تك22: 17).
إن فعل الله مطلق، يكبر الزمان، ويتجاوز المكان، ويعلو الامتحان؛ لا تحدّه حدود، ولا تقيده قيود، ولا توقفه سدود.
ج) تكثير النسل: «وأكثر نسلك كنجوم السماء وكالرمل على شاطىء البحر» (تك22: 17).
كان تكاثر النسل امتيازًا كبيرًا، وإكرامًا عظيمًا، ورضىً طيبًا من الرب؛ وكان العُقم عارًا.  وغدت نسبة الأبوة إلى إبراهيم مثار افتخار لكل إسرائيلي.  (راجع لو13: 16؛ لو16: 24،27،30؛ يو8: 37،39،53،56).  إن إبراهيم العاجز كليًا، وُعِد بكثرة نسل لا يُحصى، فآمن مصدِّقًا الوعد.  (تك15: 3–7)؛ ونال بركة إيمانه، ووُهب نسلاً بإسحاق.
د) انتصار على الأعداء: «ويرث نسلك باب أعدائه» (تك22: 17).
حَفَل التاريخ المقدس بحروب عديدة، وخاض الشعب معارك جمّة لامتلاك الأرض الموعودة.  وكان على يشوع أن ينتصر على واحد وثلاثين ملكًا، محقِّقًا وعد الرب.  إنها بركة وراثة الأعداء.
هـ) امتداد البركة: «ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (تك22: 18).
 بعد نجاح إبراهيم في امتحان تقديم إسحاق، والتضحية بالمحبوب الوحيد الغالي، إطاعة لطلب الرب؛ بورك إبراهيم من الرب، وألبسه هيبة ووقارًا؛ فكان السيد المهوب، الذي فيه اختزنت بركة الله، وامتدت إلى أمم كثيرة   (تك23: 6،11،15).

حنا الحلو