أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
أصحاب السَبْقِ

(مت 2: 1-12)

اقلب أول صفحة في العهد الجديد لتجد قصتهم، تاليةً مباشرةً للقصة الفريدة الرائعة: قصة تشريف السيد الكريم للأرض.

اسأل عنهم محبي كلمة الله والمقدِّرين لشخصه، واقرأ آلاف السطور التي كُتبَت عنهم.

ابحث عنهم في الأذهان كلّما تناولت موضوعنا السامي، لن تخلو الألسنة من ذكرهم بكل التقدير.

هم، بلا أدنى مبالغة، أصحاب السَبْقِ في أكرم عمل وأسمى عُمق للعلاقة بين الإنسان والله.

أبدعوا في عمل شاغل السماء في أحلك أيام الأرض؛ فصادق إله السماء على ما عملوا بالقيادة والحماية والمدح.

ورغم مرور الزمن، فلم يزل بريق ذهبهم يتلألأ، ورائحة لبانهم تفيح، وعبق مرِّهم يعطِّر الأجواء القدسية.

بل، ويا للمجد، سيرن في السماء صوت مدحٍ لهم من ذاك الذي أكرموه.
وهيا لنقرأ قصتهم ببعض التأمل الآن، وإن كنت أدعوك للكثير منه، فهي قصة تستحق..
«وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: ... َأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ».
المجوس هم طائفة من العلماء، مختصّون بالأكثر في علوم الفلك.  كانوا رفيعي الشأن في بلاد المشرق؛ والتى يرجَّح - من القرينة التاريخية - أن تكون بلاد فارس.  كما أنهم أمميون، يُفترض أن موضوع مَلك اليهود لا يخصّهم.  ومن هداياهم نفهم أنهم كانوا من الأغنياء أيضًا.  فما الذي يحدو بأناس بهذه المواصفات أن يسافروا لمسافة آلاف الكيلومترات في أيام لم تكن الطرق فيها مُعبَّدة، ممتطين ظهور الجمال لا العربات الفاخرة، قاطعين سفرتهم في شهور كثيرة من التعب؟! 

لقد أتوا وقلوبهم متعلّقة بالأمل أن يمتّعوا عيونهم برؤياه، مملؤة بالرغبة الصادقة في السجود له.

واليوم، دعونا نسأل: هل نتكلّف كل هذه المشقّة لتقديم السجود؟!  ألا يخجلنا سعي المجوس الحثيث، الذي لم يعرف الكلل، ولم يتطرقه الملل، لتقديم السجود للمسيح؟!  إني بحق أشعر بخجل كل مرة مرّ ذكرهم ببالي.

«جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ»
بالاستنتاج الطبيعي أتوا إلى أورشليم.  نعم لقد أتوا إلى المكان الخاطئ، فالمعرفة الكتابية بالنبوات كانت تنقصهم، ولم يكن بين أيديهم ما يُعلِمهم أنه من بيت لحم يخرج المسيح.  لكن هل تُرى حرمهم ذلك من تقديم السجود؟! 
اعتقد أن في باقي القصة الرد الشافي.

لقد سألوا في كل مكان، حتى علمت المدينة كلها بخبرهم، وعلى رأسها هيرودس.  سألوا من لا يمكنه أن يفيدهم، ولا يريد إن أمكنه.  على أن هذا أيضًا لم يَحُل دون تقديمهم السجود.

ما أقل علمهم..  ما أخطأ المكان الذي سألوا فيه، والأشخاص الذين سألوهم..  لكنهم، بقيادة النجم، سجدوا أروع سجود في النهاية.

عزيزي القارئ، ألا يشجّعك هذا، حتى إن كنت قد عرفت المسيح بالأمس فقط، أن تسجد له، وإن كانت معرفتك قليلة وإمكانياتك محدودة؟!  هيا، فروح الله كفيل بأن يمهِّد لك الطريق لتفعل، بل سيقودك لتقديم سجود يشبع قلب سيدك.

« جَاءُوا ... قَائِلِينَ»
تزامُن الفعلين هنا يعطينا معنى أنهم جاؤوا مهدَّفين، وأنهم ما كانوا ليألوا جهدًا حتى يصلوا إلى قصدهم.  فمبجرد أن جاءوا قالوا، ما أضاعوا وقتًا في هذا أو ذاك، بل فورًا بدأوا في السؤال باحثين.

كم نضيِّع أوقاتًا في ما لا ينبغي أن ننشغل به، وننسى أهدافًا مقدّسة وضعها الله في قلوبنا؟!

«أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»
من اللافت أنهم لم يسألوا: ”هل وُلد ملكٌ لليهود؟“، بل لقد كان لهم من الإيمان ما جعلهم يتكلمون لغة اليقين القاطعة: «أين هو المولود ملك اليهود؟»، مع أنهم في وصولهم أورشليم لم يروا أيّة مظاهر احتفالية بمولد الملك الجديد، كما قد يتوقع العيان.

عندما رأى التلاميذ الرب في عظمته وهو يهدئ البحر «خافوا خوفًا عظيمًا وقالوا بعضهم لبعض: من هو هذا؟» (مر4: 41).  لكن في المرة الثانية، إذ خاطب الرب إيمانهم بالقول «أنا هو» ماشيًا فوق الماء، وعالج قلّته بموقفه مع بطرس، فإننا نقرأ أنهم «جاءوا وسجدوا له، قائلين: بالحقيقة أنت ابن الله» (مت14: 33).

يلزمنا إيمان حقيقي بـ«من هو هذا» الشخص، ابن الله الحي، ربّ الكل، محبوب الآب.  وإذ ينعكس هذا الإيمان على واقعنا، فنتعامل معه في حياتنا اليومية كمن هو كذلك؛ وقتئذ سنستطيع أن نقدّم له سجودًا يشبع قلبه.

«فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ»
ليس من المعروف على وجه التدقيق طبيعة هذا النجم، هل هو نجم ذو بريق خاص، أو مدار مختلف، أو شكل مختلف...  على كل حال، يمكننا بيقين أن نعتبره إعلانًا إلهيًا خاصًا بهؤلاء، فهذا وحده هو الذي كان كفيلاً بحثِّهم على قطع هذه المسافة الكبيرة.

قد نتساءل: هل تأثر المجوس ببعض المشتَّتين من اليهود في بلادهم؟ 
هل قرأوا الكتابات النبوية لدانيآل (وقد كان يومًا كبير المجوس – دا 4: 9)؟  هل وصلتهم نبوة بلعام «يبرز كوكب من يعقوب» (عد24: 17)، وقد كان بلعام من بلاد المشرق؟  ربما.  لكن المؤكَّد أن النجم، أي إعلان السماء، هو الذي حرّكهم.  وهو عين ما أنطق لسان بطرس بأروع إقرار له على الإطلاق (مت16: 16،17).

اسمعهم، بناء على ما أُعلن لهم، يقولون: «رأينا نجمه»، وهم بعد لم يعرفوا شيئًا عن تفاصيل القصة المجيدة. 

فماذا عنّا نحن المفديين بدمه؟!  أ نستطيع أن نقول: رأينا مجده وكماله.. رأينا حبه وحنانه.. رأينا صليبه وآلامه.. رأينا.. ورأينا.. ؟!  إن لدينا ما لا يُعَد مما يجعل القلب يتحرك فائضًا بكل سجود وإكرام لذلك الفريد.

وهكذا، مدفوعين بالإعلان الإلهي، قرّر المجوس القيام برحلتهم ذات الغرض الواحد..

«أَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ»
هذا هو الغرض الواحد الذي أتوا من أجله.  فهم بالتأكيد لم يأتوا لتفقُّد أحوال البلاد بأوضاعها الغريبة، ولا حتى أتوا ليشاهدوا الهيكل بمبانيه البديعة وهو يُعتبر تحفة، ولا ليتحققوا من مغزي ظهور النجم ليزدادوا علمًا.  لقد أتوا ليسجدوا.

فما الذي يشغلنا غير السجود ونحن نقدِّم السجود؟!  لنفحص أنفسنا وأغراضنا وانشغالاتنا.  وليكن لنا هذا الهدف الواحد: أن نسجد له!

«فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ»
لم يكن من المُستغرب أن يضطرب هيرودس الأدومي، مغتصب العرش، من خبر مولد ملك اليهود؛ لكن ما بال كل أورشليم قد اضطربت بدلاً من أن تفرح بمجيء ملكها المخلِّص؟!

لكننا في المقابل، نرى أولئك الراغبين في إكرام الذي يليق به كل إكرام، لم تتزعزع قلوبهم «أما الصدّيقون فكشبلٍ ثبيت» (أم28: 1)!  ولم الاضطراب والقصد ثابت، والدعم الإلهي مؤكَّد؟!

«فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ وَسَأَلَهُمْ: ”أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟“  فَقَالُوا لَهُ: ”فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ:  وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ“».
لقد عرف الرعاة بمولد المسيح بعد ساعات (لو2)، وهنا عرف المجوس بالخبر ربما بعد أيام قليلة، لكن يا للعجب أن ملك اليهود كان قد وُلد منذ شهور، ولم يعلم سكان أورشليم، بل ولا عرف قادة الشعب بالأمر!

كان رؤساء الكهنة والكتبة، بحكم مراكزهم، يتظاهرون بأنهم ينتظرون المسيا، وبحكم علمهم يقرّون بأنه المدبِّر راعي إسرائيل؛ فماذا فعلوا لما سمعوا بأمر ولادته؟  لقد كان المولود على بعد أقل من عشرة كيلومترات، فهل ذهبوا؟!

لقد كان عندهم العلم الكافي للتفاخر، فعرفوا أين وُلد، ولقد كان الرد حاضرًا فأعطوه سريعًا وبدقة مدعَّمًا بالشواهد ولم يحتاجوا للبحث.  لكن لم يكن لهم البتة التقوى التي تنتظر الرب والتي تنشئ الرغبة الصادقة في إكرامه.  فما الذي فعلته لهم هذه المعرفة الدقيقة بالنبوات؟!  لقد تحوَّلت لأداة في يد عدو المسيح!!  بل هم تحولوا، بعد ذلك، إلى ألدّ أعداء المسيح!!

وهكذا تتوالى الأحداث، فنجد أنه في الوقت الذي بقي العلم المجرَّد في أورشليم، وصل المجوس إلى المسيح.  ويا للتباين!

إن ما يُحسب وينفع ويبقى هو أشواق القلب لا استعراض المعلومات.  والعيب بكل تأكيد ليس في المعرفة الكتابية مطلقًا، بل في عدم اقترانها بالمحبة العملية للسيد والتقدير المتزايد له والتكريس الحقيقي لشخصه.

«حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ.  ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: ”اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ“». 
ها قد تبلورت الصورة، وإذ بنا نرى الموقف من المسيح وقد أصبح هكذا:
هيرودس، بمخططاته الشريرة، يسعى لقتله..

واليهود، بمعرفتهم الخالية من التقوى، يتجاهلونه..
بينما المجوس، رغم كلِّ ما مرَّ بهم، يواصلون سعيهم الدؤوب للسجود له.

أو ليس هذا الحال اليوم: 

فهناك من يناصبه العداء،
ومن هم محسوبون عليه أنهم شعبه لكنهم يضنون عليه بالإكرام،
وما أعذب أن نرى من يسرّوا بأن يكرمونه وسط هذا المشهد.

ثم اسمع هذا الأفّاق الأفّاك ماذا يقول: «آتي أنا أيضًا لأسجد له». 
آه يا هيرودس ستجثو له قَسرًا، أنت يا صاحب الأيدي الملوَّثة بدماء أطفال بيت لحم وغيرهم. 

وسيجثوا معك رؤساء الكتبة والكهنة معترفين بذلك الكريم ربًّا لمجد الله. 
ويا لبؤس حالكم ذلك اليوم!
يوم «قدَّامه يجثو كل من ينحدر إلى التراب ومن لم يُحي نفسه» (مز22: 29)، يوم «أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب... ويسجد له كل الملوك، كل الامم تتعبد له» (مز 72: 9-11).

أما أولئك الذين قدّموا له السجود، حبًّا وتقديرًا، وهو بعد صبي لم يعرِفه شعبه، فيا لغبطتهم يومئذ!
ويا سعد كل من يقتدي بهم اليوم!

سوف يأتي عن قريبٍ
  يومُ نصرٍ مُرتقَبْ

عندما قَسرًا ستجثو
  باسمه كلُّ الركَبْ

سوف أحني ركبتيَّ
  ليس من خوفٍ ورعبْ

بل لأهدي كلَّ شكرٍ
  وتسابيحٍَ وحبْ

«َلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا»
انظر كَمِّ المحبطات التي واجهتهم: فشلهم في أن يجدوا ضالتهم المنشودة في أورشليم.. قلة المعلومات عندهم.. لا مبالاة اليهود.. مكر هيرودس.. تعب الطريق..  لكنهم واصلوا المشوار.  إن أضَفتَ لهم مريم بيت عنيا، ستعرف أن النفس التي تحب المسيح لا يوقفها محبطات، مهما كانت، في سبيل تقديم الإكرام اللائق به، حتى وإن جاءت هذه المحبطات من أولئك الذين كان ينبغي أن يكونوا سبب تشجيع!

وإذ سمعوا، ذهبوا.  لم يسألوا عن عنوان الملك في بيت لحم، ولم يدخلوا في تفاصيل.  بل ساروا بالرغبة الصادقة والإيمان الواثق، الذي تجاوب معه الرب مباشرة.

«وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ... ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ»

وإذ ذهبوا في طريقهم عاد النجم من جديد لقيادتهم.  أحيانًا يلزمنا أن نتحرك من مكاننا لنتمتع بمثل هذه القيادة.  فالجمود في أفكارنا، والاكتفاء بما تواترناه وتوارثناه، والشعور بالأمان لمجرد أنني أفعل مثلما يفعل الآخرون؛ كل هذه معوّقات تمنعنا أن نتمتع بالقيادة الإلهية!

وها هو نجم السماء يتقدّمهم ليصل بهم إلى ضالتهم المنشودة.  وإذ بالنعمة الإلهية تقود أصحاب الأشواق المقدَّسة، فوق فشل الطرق الطبيعية. 

ومن يتبع النور الإلهي لا بد وأن ينتهي الأمر به إلى السجود الحقيقي. 

فليت صلاتنا دائمًا أن يعطينا الرب روح الحكمة والإعلان، فتستنير عيوننا، فندرك من هو هذا الكريم، لنقدِّم له السجود اللائق (أف1: 17-23).
وفي النهاية ما كان من الممكن أن يترك الرب أولئك المُخلِصين الراغبين في إكرامه فريسةً لمؤامرة هيرودس الشرير.  كان من المستحيل أن يتركهم أداة في يد الشيطان كرؤساء الكهنة يومها.  لذا تكلم إليهم من جديد.

تكلم الرب مع المجوس مرة بالنجم ومرة بالحلم، لكنه ما تكلم قط لرؤساء الأمة.  فسرّ الربِّ لخائفيه (مز25: 14).  ولن يعدم الرب وسيلة يقود بها قديسيه لتقديم ما يليق به من إكرام، بينما من اكتفوا بمجرد الشكليات لن ينالوا هذا الشرف أبدًا.

«فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً»
ما أروع الإنعاش الذي سبَّبه لهم عودة ظهور النجم، وما أبهج قلوبهم عندئذ.  هذا هو الفرح الناتج عن القيادة الإلهية في طريق السجود.  وكل من اختبر مثل هذا الفرح، حين قاده الروح القدس في سبيل السجود، لن يقبل فرحًا أقل من هذا.

«وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ»
ها قد وصلوا إلى البيت.  ها قد مُنحت شهوة الصدّيقين (أم10: 24).  نسوا وقتها كل مشقة الطريق، لم يعد للزمن الطويل معنى، ولا كل ما حاكه العدو صار يُذكَر.  ها هم في محضر ذاك الذي قدّروه.  وأي بهجة للقلب أسمى من هذه؟!

سجدوا له..  له وحده. 
سجدوا له، الأمر الذي لم يفكِّروا أن يفعلوه لهيرودس، مع أنه ملك.  إن في هذا اعتراف بتفرّد الصبي عن الكلّ، لقد رأى إيمانهم فيه ”ابن الله“.  لقد رأوه السيد فسجدوا له (مز45: 11). 

«ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ»
الكنز من فعل ”كنز“ أي ”جمع مع مرور الزمن ما يعتبره غالٍ وثمين“.  وهكذا فإن سجودنا ليس هو وليد لحظة فَتَحْنا فيها أفواهنا؛ بل هو مستخرج «من كنز قلبه الصالح» (لو6: 45؛ مت 13: 52).  فهل نكنز مثل هذه الكنوز النفيسة؟! 

في كل مرة أذكر فيها موت الرب، ويكشف الروح القدس عن عينيَّ فأرى جانبًا جديدًا لهذا العمل، وأبصر جمالاً فريدًا لمن أتمَّه.. فإني أكنز.

في كل مرة أقرأ فيها عن السيد في كلمته، أو في حياته، أو في النبوات عنه، فأُعجَب بذاك الشخص الفريد، ويأسرني كيف عاش بكل كمال.. هكذا أيضًا أكنز.

بل في كل مرة أُعجَب بخليقته، في شروق الشمس، في جمال الزهرة، في روعة الفضاء الفسيح، إذ يُقرّ قلبي أنها عمل أصابعه، فأزداد تقديرًا لهذا الخالق العظيم.. هكذا أكنز.

ليت لحظاتنا كلها تأمل في ذاك الكريم من كل الجوانب؛ فنكنز ما يمكننا أن نقدمه له بعد ذلك.

«وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً»
لقد قدّم المجوس هديتهم الثلاثية:
ذهبًا..  لبانًا.. مرًّا
والذهب غنيٌ عن التعريف. 
نقرأ عنه منذ البداية، منذ أيام الجنة (تك2: 11) فهو قديم قديم، لذا يمكننا أن نرى فيه مجد ”القديم الأيام“.  وكم ارتبط، على طول كلمة الله، بالكرامة الملكية، وبالأمجاد الإلهية. 

والقلب المبهور بأمجاد المسيح الشخصية، الموقن بطبيعة ذاك الكريم، يستقي من ذلك مادةً للسجود.

أما اللبان فهو خلاصة عطرية متماسكة القوام، تُستخرج من شجرة دائمة الإوراق، فنكاد نقول عنها «وورقها لا يذبل» (مز1: 3).  و”اللبان“ بالعبرية ”leb-o-naw“ ومعناها ”أبيض“ من لونه، ولون الدخان الذي يتصاعد عند حريقه؛ فهو في طبيعته أبيض، وعند حرق الظروف له لا يظهر منه إلا الأبيض أيضًا. 

أول ما نقرأ عنه في تركيب البخور العطر (خر30: 34)، ومن أشهر استخداماته في تقدمة الدقيق (لا 2: 1). 

وإلى من تشير كل هذه الأمور؟  إلى ذاك الشخص الذي عاش هنا على الأرض أروع حياة، ناصع البياض، كامل النقاء، يتصاعد من حياته روائح السرور للآب، حتى في أصعب الظروف.

والقلب المُعجَب بهذه الحياة الكاملة، المتأمل باستمرار فيها، تنساب من فمه أعذب كلمات السجود.

المُرّ هو خلاصة صمغية عطرية لشجيرات تنبت في الصحاري وسط ظروف مناخية قاسية للغاية.  ويقال إنها تخرج من الشجرة كإفرازات على شكل دموع.  ويتميّز المُرّ بمرارة شديدة حتى أنه سُمّي هكذا (الكلمة في العبرية كالعربية). 

أول ما نسمع عنه في تركيب دُهن المسحة (خر30: 23)، وفي وقت لاحق نقرأ عنه في تكفين جسد يسوع قبل الدفن (يو19: 39)، وفي كثير من الثقافات ارتبط بالتكفين.  واستُخدم المر استخدامًا طبيًا على نطاق واسع بصفة خاصة في تسكين الآلام وعلاج الجروح.

ومن ذاق المُرَّ كسيدنا في آلامه؟!  وأي موت غير موته جلب الكرامة لله والحياة للإنسان؟  فأي أمر آخر مثل موته وآلامه يستحق أن يُذكَر؟! 

إن آلامه المتنوعة، والعار الذي رضي بحمله، وعمله الكريم، واستعراض الروح القدس لتفاصيله أمام أعين قلوبنا، والشبع بنتائج هذا العمل المبارك، لَهي أمور تملأ قلوبنا بأروع سجود فيّاض لا ينقطع.
يومًا وذا قريب، يوم مجد ذلك الحبيب، سيتم المكتوب «ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبإ يقدِّمون هدية.  ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له» (مز 72: 10،11).  سيكون هذا هو الوضع العام في يوم مُلكه يوم تأتيه جمال محمَّلة بهدايا «ذهبًا ولبانًا» (إش60: 6)، وليس مرًّا. 

لكن أيَّ امتياز لأولئك الذين فعلوا ذلك في يوم رفضه؟! 
  أولئك الذين، في زمن صبره، عرفوا قدره. 
   وفي يوم رفضه، أقرّوا بمجده. 
    وفي عصر اتضاعه أحنوا الهامات والركب له. 
إن لهم شرف أن يشاركوا الآب شبعه بابنه..
  لهم السبق أن يعاينوا أمجاد ذلك الابن الكريم.. 
   ومن يستطيع أن يخبِّر عن تقدير الآب لمن أكرموا ابنه في يوم اتضاعه.

ما أروعها قصة!  قوم شرفاء، أتوا ليعطوا تقديرًا وإجلالاً دون توقُّع أن يأخذوا، فنالوا من التقدير ما لم يتوقعوا.  فهل يحفزوا قلوبنا أن نفعل مثلهم؟!  ليتنا نفعل فنجد أنفسنا «بين مركبات قوم شريف» (نش6: 12).

عصام خليل