أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
سجود أقوى من القيود

إن السجود هو ثمرة قلب امتلك الإدراك والفهم لما أعلنه الله عن ذاته، وقلب امتلأ بالمحبة نحو هذا الإله.

إن فهمي وحبي سيجعلان قلبي، بل وكل كياني، مُسلَّمًا له، مُنحنيًا قُدَّامهُ مُقدِّمًا أغلى وأفخر ما عندي لذلك الذي يستحق كل سجود وعبادة.  كما نلمس ذلك في نصيحة داود لابنه سليمان «وأنت يا سليمان ابني، اعرف إله أبيك، واعبده بقلبٍ كاملٍ ونفسٍ راغبةٍ» (1أخ 28: 9).  إن الدارس المدقِّق لموضوع السجود، سوف يكتشف أن السجود الحقيقي ليس نظامًا، بل نمط حياة وأسلوب عيشة.  بمعنى انفاق الحياة بالسجود والخدمة والعبادة للرب الإله «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» (مت ٤: ١١).

إن السجود لا يعني تقديم بعض كلمات جميلة، أو ممارسة طقس معين، أو التقيّد بنظام وقوانين.  لكن السجود هو اقتناع قلبي والتزام حبي، تقدير وتوقير وتكريم عملي للرب في كل مشوار الحياة.  كذلك يتميز السجود بعدم إعطاء أية زاوية في القلب لغير السيد الحقيقي.  أي لا يكون في قلبي شريكٌ له.  السجود معناه، ”نعم“ فقط للسيد الوحيد، وبذات الوقت ”لا“ لغيره.

في هذه المقالة سنتأمل في إحدى صور السجود الحياتي العملي من خلال قصة الرجال الثلاثة الذين أحبوا الرب، وعاشوا لأجله، وقبلوا الموت على أن يسجدوا لغيره.  تلك القصة التي دونها الروح القدس في سفر دانيآل الإصحاح الثالث.

اختيار طريق الحياة

عاش شدرخ وميشخ وعبد نغو في ظروف صعبة.  لكن رغم ذلك اختاروا طريقًا لحياتهم بأن جعلوا المبادئ الإلهية تحكمهم وليس الناس.  ولشدة حبهم لإلههم تميَّزوا بالشجاعة الأدبية.  أطاعوا سَيِّدهُم وقالوا: ”لا“ لكل أمر آخر مخالف للوصية.  تمسكوا بحقوق الله، وقفوا في صفه، رغم كلفة هذا الوقوف.  وعاشوا بعكس التيار بعد أن حدّدوا الاختيار، وكان شعارهم: ”أنا لك، ولغيرك لن أكون“.  هكذا ابتدأوا، وهكذا أكملوا السعي والمشوار.  لقد غُرِِسَت الوصية الإلهية عميقًا في قلوبهم، وهكذا تحدّدت معالم شخصية كل واحد منهم.  ورغم وجودهم في بلاد غريبة، بعيدين عن أرضهم، لكنهم حافظوا على هويتهم الروحيّة.

حاولت الظروف بألوانها المتنوعة أن تغيِّر لون شخصيتهم، الاّ أن تلك المحاولات انتهت واختفت، وبقي لونهم واضحًا كما هو.  عبدوا الرب وحده، ورفضوا السجود لغيره.

سجود بلا حدود

كانت حياة شدرخ وميشخ وعبدنغو مُسِرّة ومشبعة لقلب الرب، وعلى هذا القدر كانت تلك الحياة مرفوضة ومكروهة من عدو النفوس، الذي بالتأكيد لم يقف مكتوف الأيدي، بل على العكس من ذلك عمل بكل قوته، مستخدمًا أعلى سلطة في مملكة بابل، ومحرِّكًا كل شيء، ومخطِّطًا لإيقاف هؤلاء الثلاثة عن سجودهم لإلههم.  فجعل نبوخذنصر يصنع تمثالاً من ذهب، ويصدر أمرًا ملكيًا مشدَّدًا للسجود لذلك التمثال «ونادى مُنَادٍ بشدةٍ: قد أُمرتُم أيها الشعوب والأمم والألسنة، عندما تسمعون صوت القرن والناي...  وكل أنواع العزف، أن تخروا وتسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه نبوخذنصر الملك.  ومن لا يخرُّ ويسجد، ففي تلك الساعة يُلقى في وسط اتُّون نار مُتَّقِدةٍ» (دا 3: 4-6).

عرف هؤلاء الرجال الثلاثة بالأمر الملكي، لكنهم لم يتحيَّروا أو يهربوا، مع علمهم بالعقوبة الشديدة، بل استمروا في طاعتهم للرب، رافضين السجود لغيره.  مما اضطر نبوخذنصر أن يقنعهم بالكلام للعدول عن رأيهم ومبادئهم.  فكان ردهم ردًّا هادئًا رغم التهديدات، وكان جوابهم شجاعًا، علا فوق كل التحديات، فنطقوا مستخدمين أقوى العبارات:

1- لن نغيِّر مبادئنا ومفاهيمنا وموقفنا من نحو إلهنا، وإن كان الكثيرون غيَّروا وسجدوا لتمثالك، لأنه مكتوب: «لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر» (خر23: 2).  لا يهمنا رأي الكثيرين، لكن يهمنا رأي الهنا أو ما تعلنه شريعته، فلن نخضع لأمرك أيها الملك.

2- «لا يلزمنا أن نجيبك» (ع 16).  لا مجال للتفاوض أو التنازل، يوجد من يجيب عنا.  لا تغيير في موقفنا ولا عدول عن مبدأنا.

3- «هوذا يوجد إلهنا» (ع17).  إنه أمام عيوننا وقلوبنا، كقول المرنم: «جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع» (مز16: 8).

4- «الذي نعبده» (ع17)؛ نحبه نطيعه ونخدمه.  شعارنا «ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس» (أع 5: 29).

5- «يستطيع أن يُنجِّينا» (17).  نؤمن بقدرته، وكذلك نثق في حكمته، سنعبده ولا نعبد غيره، حتى إن كانت مشيئته أن لا ينجينا من الأتون (هكذا جاءت في العبرية).

6- لأننا نُحب إلهنا، فنحن على استعداد أن نحتمل نار الأتون، على أن تكوينا نار ضمائرنا بمخالفة شريعته.

7- نحن على استعداد أن تُوثق أيدينا وأرجلنا، ولا نرضى أن تُوثق محبة قلوبنا أو يتوقف لحظة سجودنا.

8- نحن نحبّه ونعبده، وعلى استعداد أن نُسلِّم أجسادنا للموت، ولن تخرّ أو تسجد أجسادنا أو ننحني لغيره.

قيود لم توقف السجود

امتلأ نبوخذنصر غيظًا، وتغيَّر منظر وجهه، وأمر بأن يُحمى الأتون سبعة أضعافٍ أكثر من المعتاد، وأمر الجبابرة  أن يُوثقُوا الرجال الثلاثة، ويلقوهم في أتون النار المتقدة (ع 19،20).

جاءت كلمة «يوثقوا» في العبرية (لخفث) أي ربط الأيادي والأرجل.  تقييد الشخص عن مزاولة أية حركة، مع العلم أنه لا حاجة لتقييد وربط من سيُطرح في الأتون المحُمّى سبعة أضعاف.  فما هي إلاّ لحظات بعد طرحهم في الأتون، يكونون قد تلاشوا واختفوا.  لكن فكرة الربط والتقييد هي نابعة من معرفة العدو لقوة وشجاعة هؤلاء الرجال المبنية على مدى قدرتهم على رفع أياديهم الطاهرة نحو إلههم، وإحناء ركبهم التي استخدموها دائمًا للسجود لسيدهم.  لهذا أمر نبوخذنصر قبل طرحهم في الأتون أن يوثقوا لئلا يستخدموا أياديهم وركبهم للاتصال بإلههم حتى في اللحظات القصيرة وهم في الأتون.

إن القيود وتلك الربط قصرت أن تربط أو تمنع قلوبًا لا تعرف الخوف، وتأبى الخيانة أو توقف العبادة لإلههم الحي الحقيقي.  أُوثِقَ هؤلاء الرجال وطُرحُوا للأتون، لكن قلوبهم استمرّت عابدة وساجدة بكل الحب للرب الإله.  وكان سجودهم في هذه المرة تعبيرًا عن حبهم، بأن أسلَموا أجسادهم للموت كذبيحة حيّة، وأكملوا سجودهم داخل الأتون.

عبيد الله العلي
«يا شدرخ وميشخ وعبد نغو، يا عبيد الله العليِّ، أخرُجُوا وتعالَوا» (دا 3: 26).
جلس نبوخذنصر متفرِّسًا ليشهد فناء هؤلاء الثلاثة كتحدٍّ لإلههم، أو ليثبت أنه لا إله يقوى عليه، أو قادرٌ أن يلغي أمره.  لكن على خلاف العادة، جرت أحداث داخل الأتون جعلت نبوخذنصر يتحيَّر، فيقوم مسرعًا متسائلاً كأنه غير مصدق لما تراه عيناه.  رأى ثلاثة الرجال محلولين يتمشون في وسط النار وما بهم ضرر، ومعهم رابعٌ شبيهٌ بابن الآلهة.  وعندما تأكد من المنظر الذي رآه ومن سلامة هؤلاء الرجال، صرخ بأعلى صوته مُناديًا إياهم من وسط الأتون، مؤكِّدًا ومُقِرًّا أن هؤلاء الرجال هم بالحق عبيد الإله العلي، أي أنه يوجد بالحق إله أعلى من نبوخذنصر ومن كل آلهته.  ومن الجهة الأخرى أن شدرخ وميشخ وعبدنغو لم يسجدوا لنبوخذنصر ولا لغيره، إنهم للرب يتبعون، وشخصه فقط يعبدون، وان إرادتهم خاضعة لسيد واحد ووحيد وهو إلههم العلي.

لقد تحدى هؤلاء الثلاثة أمر الملك، بل استطاعوا أن يُغيِّروا كلمته.  بل في وفائهم وحبّهم والتمسك بالسجود فقط لإلههم، جعلوا نبوخذنصر يُغيِّر كلمته وموقفه، وحتى عبادته حين رفع صوته بالتسبيح والسجود والإكرام لإله شدرخ وميشخ وعبد نغو فقال: «تَبَارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو، الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلُوا عليه وغيَّروا كلمة الملك وأسلَمُوا أجسادهم لكيلا يعبُدوا أو يسجُدُوا لإله غير إلههم» (دا 3: 28-29).

أخي العزيز:
هل يظهر في حياتك مثل هذا السجود؟
هل يقدِّر الآخرون أن يعلنوا أنك عبد ليسوع المسيح؟
هل أدركت أن السجود هو نمط حياة تُنفق لحساب الإله الحي الحقيقي وللسيد الكريم؟

إن هؤلاء الثلاثة أكرموا الرب أفضل إكرام، والرب أيضًا أكرمهم عندما عُينوا من قِبَل نبوخذنصر في أعلى المراكز في المملكة.  وهكذا يفعل الرب مع أمثالهم.  «ورأيت عُروشًا فجلسُوا عليها، وأُعطُوا حكمًا.  ورأيت نفوس الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجُدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبَلُوا السِّمَة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكُوا مع المسيح ألف سنةٍ» (رؤ 20: 4).

ميشيل نويصري