أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
يغش نفسه

«لأنه إن ظن أحدٌ أنه شيء وهو ليس شيئًا فأنه يغش نفسه
لكن ليمتحن كل واحد عمله وحينئذ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط
لا من جهة غيره لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه» (غل6: 3-6).
هل من الممكن أن يعيش المؤمن زمنًا طويلاً وهو يظن أنه شيء وهو ليس شيئًا؟!
الإجابة، بكل أسف وأسى، طبقًا لقول الكتاب في هذه العبارة، هي: نعم!
وهل من الممكن أن يعيش المؤمن زمنًا طويلاً يظن نفسه أنه عابد وساجد حقيقي للرب وهو ليس كذلك؟
الإجابة، بكل أسف وأسى، طبقًا للواقع الذي نراه حولنا، هي: نعم!
وبماذا يوُصف المؤمن في هذه الحالة؟
إنه، بكل أسف وأسى، طبقا لقول الكتاب: «يغش نفسه». 
وماذا يقصد الرسول بالقول: يغش نفسه؟

إن الشخص الذي يغش نفسه هو، على ما أعتقد، شخص اعتنق فكرًا ما، أو يمارس ممارسة ما، جعله أو جعلته يشعر في نفسه أنه شيء حسن في نظر الله؛ وهذا ما سقط فيه بعض الإخوة في كنائس غلاطية.

ولشدة انسجام هذا المؤمن بهذا الإحساس ”أنه شيء“، لم يمتحن نفسه ولا عمله، أي لم يذهب ليسأل الله إن كان هو كذلك أم لا، خوفًا من أن لا يكون كذلك، فيفقد هذا الإحساس الجميل الذي كيَّف وبنى حياته النفسية والروحية عليه! 

أو ربما لأن هذا الظن أعطاه وضعًا ما في الوسط الروحي، يجعل من الصعب عليه أن يخسره. 
أو ربما ببساطة أنه لم يتعوَّد من الأصل على امتحان كل شعور أو فكر في محضر الله، لأنه لم يصِل بعد للقلب المكسور، الذي يجعله يفقد الثقة تمامًا في قلبه، فيجري باستمرار إلى الرب في كل أمر، طالبًا الاختبار والامتحان قائلاً: «اختبرني يالله واعرف قلبي»!

 أو ربما لأنه من هؤلاء الذين ينبهرون بالناس، أي الذين يرون الناس كأشجار يمشون، فإن أُعجب بشخص ما يعتنق فكره أو يمارس ممارسته، وصارت هذه الأمور من وجهة نظره صحيحة لا تحتاج إلى امتحان!  متجاهلاً قول الرسول الواضح: «لكن ليمتحن كل واحد عمله، وحينئذ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة غيره، لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه» (غل6: 4،5). 

وكنتيجة لعدم سؤال الجهة الوحيدة المختصة بتقرير إن كان هو شيئًا أم لا، لم يتم تغيير أو تعديل وجهة نظر صاحبنا في نفسه!  فيستمر يظنّ في نفسه أنه شيء حسن في نظر الله، وهو ليس كذلك!  ويقينًا قد حاول الرب مع مثل هذا المؤمن، مرات عديدة، أن يلفت نظره بصوت هامس ورقيق لكي يسترجعه من خداع نفسه، لكنه للأسف كان يخمد هذا الصوت ليستمر مستمتعًا بهذا الإحساس الوهمي الجميل!  بل وربما تجده في مرات ينبري كالأسد مدافعًا عن هذا الفكر الذي اعتنقه أو هذه الممارسة التي يمارسها، إذا تجرّأ أحد وهاجمها، لا حبًّا فيها، بقدر ما هو حب لنفسه!
هذا المسكين يغش نفسه!

ولا أعتقد أن هناك كارثة في المجال الروحي أدهى من هذه الكارثة!  ففي كل حالة غشّ هناك خادع ومخدوع وربح، فالمخادع لن يخدع أو يغش المخدوع إلا إذا كان هناك ربح يحقّقه من وراء هذا الغش؛ لكن المشكلة عندما يكون الرابح هو نفسه الخاسر!  ففي هذه الحالة المأساوية لن يستفيق المخدوع، إذ إن الشيء الوحيد الذي يجعل المخدوع يستفيق ويرفض مزيدًا من الخداع هو نار الشعور بالخسارة.  لكن إن كان هناك ربح مستمر يطفئ باستمرار الشعور بالخسارة، سيستمر المخدوع في خسائره إلى ما لا يعلم سوى الله.  وعندما تكون الخسارة هي الوقت أو العمر، الذي ينبغي علينا أن نفتديه لا أن نخسره، تكون الكارثة أمرّ وأدهى!

لذلك أعتقد أن هناك أمل لمخدوع يخدعه إنسان في أن يستفيق، وهناك أيضًا أمل لمخدوع يخدعه الشيطان، لكن هل يا ترى هناك أمل لمخدوع يخدع نفسه؟ 


بلا شك هناك أمل في الرب، فهو وحده القادر على استرداد النفس من براثن غشّها لنفسها؛ لكن على قدر ما رأيت إنه يسترجعها بقدر كبير من الألم لصاحبها.
ولا أعتقد أنني مُبالِغ إذا قُلت أن أقدَم وأكبر وأخطر مجال، يتم فيه الخداع للنفس هو: مجال العبادة والسجود!!

أقدم مجال: لأنه ظهر بعد دخول الخطية مباشرة!  فبمجرد دخول الخطية، في تكوين3، رأينا الإنسان يخدع نفسه في مسألة التبرير أمام الله من خلال ورق التين.  ثم نراه بعدها مباشرة، في تكوين4، يخدع نفسه في مسألة العبادة من خلال تقدمة قايين!  وإلى اليوم لا يزال الإنسان يخطئ هذين الخطأين بالذات؛ ويخدع نفسه هاتين الخدعتين عينهما؛ فيحاول  التبرُّر أمام الله بطريقة من اختراعه، ويريد أن يقترب إلى الله بعبادة على هواه!

وأكبر مجال: لأن نظرة واحدة للعالم من حولنا تكفي لتجعلك ترى كَمّ الراضيين جدًا عن أنفسهم، الظانيين أن الله في صفّهم، بل أنهم وحدهم المرضيون عنده، وهم للأسف إلى الهلاك الأبدي مسرعون.  بل ونظرة واحدة للمسيحية من حولنا، تكفي لترى ملايين المسيحيين على مختلف طوائفهم، لم يختلفوا على شيء قدر اختلافهم على طريقة العبادة.  ولكل جماعة منهم طريقتها، وهي تثق في صحتها، بل وتراها هي الطريقة الوحيدة الصحيحة التي ينبغي أن يرجع إليها بقية المسيحيين.  في الوقت الذي نرى فيه بعض هذه الطرق قد انحرف إلى الوثنية!  وأخرى إلى مجرد حفلات صاخبة!  بينما الكل مقتنع أنه يعبد الله بالروح والحق!!! 

وأخطر مجال: لأن حجم الخداع فيه قد يصل إلى ما قاله المعلم في يوحنا16: 2 «بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدِّم خدمة لله»!!!  وكلمة خدمة هنا هي ترجمة الكلمة اليونانية ”ليتوريا“ أي ”عبادة“!  بل وهي وأول مرّة ترد فيها كلمة عبادة في صيغة الاسم في العهد الجديد!!  هل القتل عبادة؟  هذا ما قاله المعلم الأمين من ألفي عام، وهذا ما نراه حولنا الآن!  وليس بالضرورة أن يكون القتل قتلاً حرفيًا بسكين أو ببندقية، لكن حتى في اجتماعات القديسين نرى أحيانًا الذبح والقتل المعنوي والأدبي، لأن القاتل يفعل هذا بكل سرور، إذ يظنّ أنه يعبد الله، وأنه حريص كل الحرص على مجد الله!!!

وخطير أيضًا؛ لأن الخدعة في مسألة العبادة تستهلك من العمر الكثير، بل وربما تستهلك العمر كله!

وخطير أيضًا؛ لأن اقتناع الشخص بأنه عابد، وهو ليس كذلك، يملؤه بالكبرياء الروحي والشعور بأنه أفضل من جميع المؤمنين، فيسدّ أذنيه ويقسّي قلبه تجاه أي صوت يحاول أن ينبِّهه على حقيقة ذاته، فيصبح العلاج صعبًا أو ربما مستحيلاً!

وخطير أيضًا؛ لأن استرداد الرب للشخص من براثن هذه الخدعة، إذا كان مؤمنًا حقيقيًا، غالبًا ما يكون من خلال تركه لنفسه ليسقط في خطية ما تجلب عليه عارًا يكسر قلبه، ويجبره على امتحان نفسه.

لذلك لا يوجد شيء يحزن قلبي ويثير غيظي قدر إحساسي بأنني كنت أغش نفسي.  ولأن ناموس المحبة الإلهي الذي تخضع له الطبيعة الجديدة، يحتّم على المؤمن أن يحبّ قريبه كنفسه، لذلك أمتلئ بالحزن والغيظ أيضًا عندما أرى واحدًا من إخوتي مخدوعًا.  وبالتالي لا أستطيع أن أظل صامتًا.  وكيف يمكنني الإدعاء أنني أطيع السيد وأحب أخي وأنا أراه مخدوعًا وأظل صامتًا؟
ومن قبيل محاولة إعادة المفقود، لنفسي ولإخوتي، كما أمر الرب في تثنية 22: 1-4 والذي قال: «لا يحل لك أن تتغاضى»، مع الوضع في الاعتبار أن المفقود هنا ليس ثوبًا ولا حمارًا ولا ثورًا، بل عمرًا كاملاً قد يضيع من المؤمن وهو يغش نفسه!  لذلك أتوقف قليلاً عند المعاني التي قصدها الروح القدس من وراء الكلمات التي تُرجِمت ”عبادة“ أو ”سجود“ في العهد الجديد، لعلّها تساعدنا للوقوف على حقيقة العبادة كما يريدها الله، وبالتالي نقف على حقيقة أنفسنا إن كنا نعبد الله بالحق أم أننا نغش أنفسنا.
لقد وردت في العهد الجديد اليوناني ثلاث كلمات تمّت ترجمتها في ترجمتنا العربية ”عبادة“ أو ”سجود“ أو ”خدمة“. 

1- ”بروس كونيو“ Pros-kuneo. 
وهي التي تُرجِمت «يسجدون» في يوحنا4: 23.  وقد وردت لأول مرة في العهد الجديد في متى2: 2 عن سجود المجوس للمسيح.  ووردت حوالي ستين مرة بعد ذلك في بقية العهد الجديد.  وهذه الكلمة في اللغة اليونانية - وهي لغة تصويرية - ترسم صورة كلب (كونيو) يقبع عند (بروس) قدمي سيده يلعق يده أو يقبّلها؛ فاستعملها اليوناني القديم ليصف بها حالة الاحترام والحب والوفاء والولاء، وبالتالي صارت عندهم الكلمة المستعملة للتعبير عن علاقة الإنسان بالآلهة.  وقد قيلت في العهد الجديد عن الذين أتوا للمسيح طالبين منه الشفاء كالأبرص ويايرس والمرأة الكنعانية (مت 8؛ 9؛ 15).  وكذلك قيلت عن سجود العبد للعبد رفيقه (مت18).  وقيلت أيضًا عن سجود الشياطين للمسيح (مر5)، وسجود الهازئين وهم يصلبوه (مر15).  وعن سجود السامريين (يو4)، وعن سجود اليونانين (يو12).  وقد وردت أكثر من عشرين مرة في سفر الرؤيا، عن السجود لله وأيضًا عن السجود للوحش وللتنين!  من كل هذا يتضح أنها تعني التعبير عن الاحترام، بغَضّ النظرعن كُنه هذا الاحترام وطبيعته.

2- ”لاتريا“ Latreia. 
وهي حرفيًا تعني ”خدمة“، لكنها تأتي دائمًا في العهد الجديد عن خدمة الله، وتأتي غالبًا مرتبطة بشيء يقدّمه الإنسان لله كتعبير عن طاعته وإكرامه لله.  ولذلك يتم ترجمتها في الإنجليزية worship وليس service وفي العربية ”عبادة“.  وهي التي منها جاءت الكلمة القبطية ”ليتورجيا“ والتي تستخدم لوصف العبادة الجماعية في الكنيسة القبطية.  وقد وردت في صيغة الاسم 5 مرات (يو16: 2؛ رو9: 4؛ 12: 1؛ عب9: 1،6).  في الأولى يكلِّمنا السيد عن شخص يقدِّم تقدمته لله ”اضطهاد المؤمنين“!!  والثانية تصف العبادة الرمزية الطقسية، والثالثة تصف العبادة العقلية وذبائحها الروحية، أما الرابعة والخامسة فقد تُرجِمت ”خدمة“ عندما يقول الرسول عن العهد الأول كان له فرائض خدمة، والكهنة يدخلون ليصنعوا الخدمة.  ثم يستعمل الرسول نفس الكلمة بصيغة الفعل عندما يقول «يطهِّر ضمائركم لتخدموا الله الحي» (عب 9: 14).  وقد جاء الفعل في اليوناني 22مرة، كانت أولها في حديث المسيح مع الشيطان عندما قال: «وإياه وحده تعبد».  وفي بقية الأناجيل جاءت على لسان زكريا: «أن يعطينا إننا بلا خوف منقَذين من أيدي أعدائنا، نعبده».  وكذلك قيلت عن حنة النبية «عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا».  وقالها بولس عن نفسه أكثر من مرة (مثل أع27: 23؛ رو1: 9؛ 2تي1: 3).  وعليه فهي تصف غالبًا خدمة الإنسان لإلهه، من خلال تقديم ذبائح أو تقدمات له.

3- ”دوليوو“Douleuo
وتعني خدمة شخص لشخص آخر كعبد، وقد وردت 27مرة أولها في متى 6 حيث نقرأ «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين الله والمال».  وفي يوحنا 8 «نحن لم نُستعبد لأحدٍ قَطّ»، وأعمال 7: 7 «الأمة التي لها يستعبدون», وأعمال 20 «أخدم الرب بكل تواضع»، ورومية 6 «كي لا نعود نُستعبد للخطية».  وهكذا في كل المرات ترتبط بمسألة العبودية.  إذًا فهي ليست لها علاقة بالعبادة بل بالخدمة، وبالتالي فترجمتها في 1تسالونيكي1: 9 «تعبدوا» غير دقيق، والأفضل ”تخدموا“.

وعليه يمكننا الاعتماد فقط على الكلمتين ”بروسكينو“ و”لاتيريا“ في تكوين فكرنا من جهة مسألة العبادة والسجود.  ومن الجميل أنهما الكلمتان اللتان استخدمهما السيد في ردّه على إبليس: «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد»!  فقد جاءت الأولى تسجد ”بروسكينيو“ والثانية تعبد ”لاتريو“.  والعجيب أننا عندما نعود لسفر التثنية، الذي منه اقتبس الرب هذه العبارة، لا نجدها هكذا بالضبط بل نجدها: «الرب إلهك تتقي وإياه تعبد» (تث 6: 13).  أي أن الرب هنا وفّر علينا عناء ترجمة كلمة ”بروسكينيو“ إذ يصبح معناها ببساطة هو احترام الرب وتقواه ومخافته؛ وهذا هو المعنى الأقرب ليوحنا4: 23،24، كما يذكر داربي في حاشية الكتاب في تعليقه على متى4: 10.  بينما الكلمة الثانية «تعبد» ترتبط أكثر بما يقدَّم للرب من تقدمات كتعبير عن الحب والولاء، ولذلك يقول رجل الله داربي: ”إن كلمة بروسكينيو تعني فعل تقدير واحترام شخصي، لكن الكلمة الأقرب لما يسمّى في لغتنا الحديثة worship، أي عبادة، هي الكلمة اليونانية لاتريو وليس بروسكينيو“.

وباعتبارنا نحترم الوحي اللفظي، ويهّمنا بشدة المعنى المباشر لكل كلمة، والذي قصده الروح القدس من استعمالها، يمكننا القول إن المعنى البسيط والمباشر الذي نستخلصه من الكلمات التي استعملها الوحي عن السجود والعبادة في العهد الجديد هو: ”حالة من الاحترام والتقوى الحقيقية تملأ كيان الساجد، يعبِّر عنها بتقديم الذبائح والتقدمات لله“.

هذا ما نستخلصه من معنى الألفاظ، وهو يكفي بنسبة كبيرة لإعطاء معنى واضح للسجود والعبادة، لكن إذا أردنا مزيدًا من النور ليكون عندنا تعريف أكثر شمولاً، يمكننا أن نضيف بعض الإيضاحات المبنية على العبارات التي جاءت في العهد الجديد كقرائن للحديث عن السجود والعبادة.

أولاً: من يوحنا4: 20-24 نتعلم أن هذه الحالة من التقوى والخشوع يُنتجها في نفس الساجد إعلان الله عن ذاته للساجد، يقول الرب للمرأة السامرية: «أما نحن فنسجد لما نعلم»، أي أنه سجود مبني على العلم بطبيعة وصفات الإله الذي نسجد له، لذلك كان سجود اليهود سجود بالحق، لأنه مبني على إعلان حقيقي عن الله، بينما كان سجود السامريين باطلاً لأنهم كما قال المعلِّم للمرأة أيضًا: «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون».  كذلك كان سجود الأثينويين سجودًا باطلاً لأنهم يعبدون إلهًا مجهولاً، فكانوا يتّقون من يجهلون، كما قال لهم بولس الرسول (أع 17: 23). 

من هذا نستنتج أنه لكي يكون هناك ساجد حقيقي لا بد من أن يعلن الله ذاته أولاً لهذا الشخص، ليجعله يمتلئ بأحاسيس الحب والاحترام والخشوع لله، فيصبح ساجدًا بالحق.  ومن لم يتوفر له هذا الإعلان الخاص من الله في لقاءات فردية معه، لن يصبح ساجدًا حقيقيًا أبدًا، مهما كان شكل السجود الذي يقدِّمه صحيحًا وكتابيًا.  ومعرفة الله من خلال إعلانات الله للآخرين، لن تحول الشخص إلى ساجد، مهما كان سمو هذه الإعلانات وصدقها.  فلم يعرف بطرس حقيقة المسيح بسبب رؤية العين والتلامس المباشر معه، بل من خلال إعلان الآب عن حقيقة من هو الابن (مت16: 17).  ولم يعلم التلاميذ من هو الآب إلا من خلال إعلان الابن لهم (مت11: 27).  فإن كان لا سجود بدون معرفة الآب والابن، فلا معرفة حقيقية لهما بدون إعلان.
وقد تكرّر قديمًا هذا القول عن الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب «وظهر له الرب»، أو«قال له الرب»، «فبنى مذبحًا للرب الذي ظهر له» (تك 12؛ 13؛ 26؛ 35).  أي لا عبادة بدون إعلان.

ثانيًا: السجود المسيحي هو سجود بالروح (يو4: 24).  والمقصود هنا الروح الإنسانية.  أي أنه سجود روحي.  والمقصود بالسجود الروحي هو أنه:


1- عكس الطقسي: بمعنى أنه ليس هو هذا السجود الذي فيه يؤدّي الساجد طقسًا وهو لا يفهم معناه، كما كان يسجد اليهودي قديمًا!  المسيحي، على العكس، عبادته عقلية واعية؛ فهو يدرك من هو الله الذي يعبده.  وما الذي يسرّه.  وهو بسرور يقدم لله ما يسره.
2- عكس المادي: أي أنه سجود لا يقدِّم فيه الساجد ذبائح وتقدمات مادية كما كان يفعل اليهودي، بل هو: «كهنوت مقدس لتقديم ذبائح روحية» (1بط2: 5).
3- عكس المحيَّز بمكان: أي أنه لا يُحَد ولا يُحيَّز في مكان محدد، فيه يكون السجود مقبولاً، وبعيدًا عنه لا يحل للساجد أن يسجد، كما كان حال اليهودي مع أورشليم قديمًا.  هذا ما أعلنه السيد عندما قال: «تأتي ساعة، لا في هذا الجبل، ولا في أورشليم تسجدون للآب ...  الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو4: 21،24).
4- عكس الجسدي أو النفسي: بمعنى أن القوة العاملة فيه والمنتجة له في كيان الساجد ليست قوة التأثير النفسي للطقس بمادياته، ولا قوة تأثير الموسيقى بفاعليتها الرهيبة في النفس، ولا قوة تاثير الهيكل الحرفي بجمال أبنيته وزخارفه؛ لكنها قوة الروح القدس الساكن في المؤمن، والعامل أولاً في قلبه وذهنه، ليدرك من هو الآب وماذا يطلب، والقادر على جعل الساجد يقدِّم المسيح للآب.  فهو الذي ينبع في الساجد إلى حياة أبدية (يو4: 14)، وهو الذي يقول عنه الرسول: «لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح، ونفتخر في المسيح يسوع، ولا نتكل على الجسد» (في3: 3). 

 هذا المفهوم المأخوذ من المعنى المباشر للكلمات والعبارات كما وردت في العهد الجديد، نادرًا ما يخطر على ذهن المسيحي اليوم إذا ما سألته عن السجود أو العبادة!  وقد قدَّمت هذا السؤال لعدد كبير من المؤمنين في دائرة الاعتراف المسيحي من مختلف الخلفيات التعليمية: ”ما الذي يرد إلى ذهنك عندما تسمع كلمة السجود أو العبادة؟“  وكانت بالطبع الإجابات مختلفة، طبقًا للخلفية التعليمية أو الطائفية، لكنها جميعًا لم تُشر إلى هذا المفهوم.  ربما لو ذكرته لهم لن يرفضوه، لكنهم لم يذكروه!  مما يؤكِّد أنه حتى إذا لم يُرفَض كتعليم، فهو غائب كحقيقة يعيشونها ويمارسونها.  وقد لاحظت في إجاباتهم، على الرغم من اختلافاتها، أنها اتفقت على ثلاثة أشياء لم يَشِذ عنهم واحد من كل الذين شملهم هذا البحث الصغير ألا وهي:

1- السجود أو العبادة هو ما يجري في المكان الذي تجتمع فيه الكنيسة. 
2- السجود أو العبادة هو ممارسة جماعية.
3- السجود أو العبادة هو تقديم التسبيح والتشكرات لله.

وعلى الرغم من أن العبادة الحقيقية تشمل بلا شك هذه الأفكار الثلاثة، إلا أن المشكلة هي أن مفهوم العبادة عندهم قد اقتصر على هذه فقط!  وفي هذا، من وجهة نظري، تشويه كبير لمعنى العبادة.

وفي هذه المسائل الثلاث التي اتفق عليها الجميع، كان هناك بالطبع اختلاف في النقطة الأولى من جهة شكل المكان واسمه.  وفي النقطة الثانية كان الاختلاف من جهة شكل الاجتماع وعناصره.  وفي النقطة الثالثة كان الاختلاف من جهة كيفية التسبيح والتشكرات.  والمجال هنا لا يتسع لسرد هذه الاختلافات بالتفصيل، لأن ما نريد إبرازه ليس ما اختلف عليه المؤمنون من مختلف الخلفيات الفكرية أو التعليمية، بل ما اتفقوا عليه.  وللأسف الشديد هناك أخطاء وأخطار كبيرة في هذا الذي اتفقوا عليه من وجهة نظري أوضحها باختصار.

1- العبادة هي ما يجري في المكان الذي تجتمع فيه الكنيسة.
بالطبع هناك شكل من أشكال السجود والعبادة يتم في المكان الذي تجتمع فيه الكنيسة، حين يجتمع الساجدون معًا ليذبحوا ذبائح الحمد والشكر للرب الحاضر في الوسط حسب وعده.  لكن الخطير هو قصر السجود والعبادة على ما يجري في هذا المكان فقط، فكما خلط البعض بين الكنيسة التي تجتمع في مكان ما، وبين المكان نفسه حتى أطلقوا على المكان اسم الكنيسة، كذلك بسبب قَصرِ العبادة على هذا المكان في أذهان البعض تم تسميته بمكان العبادة، وكأنه لا عبادة بعيدًا عنه!

 هذا الفكر، ألا وهو قصر السجود والعبادة على مكان اجتماع الكنيسة، وقصر مكان اجتماع الكنيسة على العبادة فقط يتعارض مع فكر العهد الجديد عن كل من العبادة والمكان. 

فمن جهة المكان: فالمكان الذي تجتمع فيه الكنيسة يتسع ليشمل بالإضافة إلى اجتماع كسر الخبز (أع20: 7)، واجتماعات الصلاة (أع12: 12)
أولاً: اجتماعات للبنيان والتعزية والتعليم، سواء من خلال معلمين موهوبين (أع 11: 26)، أو من خلال المؤمنين بعضهم لبعض (1كو14: 26،31). 
وثانيًا: يشمل اجتماعات لشركة المحبة الأخوية حيث يأكل القديسون معًا (1كو11: 33). 
وثالثًا: يشمل اجتماعات للكرازة بالإنجيل (أع19: 9). 
ومن جهة السجود والعبادة، فالمعنى المباشر للكلمات التي نطق بها الرب، والتي كتبها الروح القدس، تنفي تمامًا قصرِهما على المكان الذي تجتمع فيه الكنيسة.  لأنه إن كان السجود يساوي التقوى كما تعلّمنا من مقارنة تثنية6: 13 ومتى4: 10 فهل التقوى قاصرة على المكان الذي تجتمع فيه الكنيسة؟  هل التقوى حالة تنتاب الشخص لحظة دخوله مكان الاجتماع لتفارقه بمجرد مغادرته؟  أقول بكل أسف: هذا ما صار يحدث مع كثيرين، وهو أحد النتائج السلبية لهذا الفكر.  فتجد الشخص في الاجتماع في غاية الخشوع للرب وربما الهيام به، كما يبدو من مظهره وكلماته وتعبيراته، ثم تجده في مكان عمله أو في بيته وسط عائلته شخصًا آخر يتصرف كواحد من الناس!!

وهل العبادة والتي، كما فهمنا، مرتبطة بالتعبير عن حبِّنا وولائنا للرب، من خلال تقديم ذبائحنا له، صارت قاصرة على تلك الساعة التي نقضيها في محضره في هذا المكان، ولا يبقى عندنا شيء نقدّمه له بقية اليوم، بل وبقية الأسبوع؟  لا عجب إذًا إن كنا نرى شعورًا عميقا بالرضى عن النفس ينتاب الشخص لمجرد أنه حريص على حضور الاجتماع، بينما لا تُظهر حياته العملية أيّة مظاهر تنم عن قلب منكسر يشعر دائمًا بغمر الإحسانات الإلهية، فيعبِّر عن هذا بمختلف أشكال التقدمات التي يُسَرّ بها الرب.  ولا عجب إن كنا نرى البعض يعتبرون مجرد وجودهم في هذا المكان حتى لمجرد استماع عظة هو عبادة!

2- السجود أو العبادة ممارسة جماعية      
بالطبع هي فرصة ما أروعها عندما يجتمع الساجدون معًا، وتفيض من قلوبهم التشكرات، ويقدّمون بابتهاج ذبيحة التسبيح.  لكن إذا كان السجود هو حالة الخشوع الداخلي والاحترام العميق للرب المعلِن ذاته للساجد، فهل هذه الحالة لا توجد إلا عندما يوجد المؤمن مع إخوته؟  ألا توجد بذات القدر، وربما أكثر، عندما يختلي القديس بإلهه، والتي يعبِّر عنها المرنم بقوله: يا طيب ساعات بها أخلو مع الحبيب .. يجري حديثي معه سرًا ولا رقيب؟  أ ليست الانطباعات العميقة عن عظمة الله وصلاحه وحكمته التي تتركها ساعات الشركة الفردية مع الله هي التي تخلق ساجدًا حقيقيًا في عيني الآب؟  أوَ ليس غياب هذا الفكر هو الذي جعل الكثير من المؤمنين يهملون الوجود الفردي أمام الرب لإشباع قلبه، دون أدنى شعور منهم بالتقصير، طالما أنهم لا يهملون حضور الإجتماع؟  أ ليس هذا الفكر هو الذي أوجد جيلاً من المؤمنين لا يعرف روعة العلاقة الفردية المباشرة مع الرب، ودائمًا علاقتهم مع الرب هي علاقة من خلال وسيط هو الجماعة.

وإن كانت العبادة هي تقديم الذبائح الروحية التي يسر بها الرب بمختلف أنواعها، فهل المؤمن الفرد ليس عليه أن يقدم أي شيء للرب طوال اليوم أو طوال الأسبوع حتى يتمكن من هذا عند مجيئه للاجتماع؟  أ ليس هذا هو الذي خلق جيلاً لا يشعر بمسئولياته تجاه الرب إلا داخل الاجتماع؟  فلا شعور بالمسؤولية الروحية تجاه عائلته، كيف يجعلهم يرون في حياته المسيح؛ ولا شعور بالمسؤولية الروحية تجاه جيرانه، كيف يشهد لهم عن المسيح؛ ولا شعور بالمسؤولية تجاه زملائه في العمل، كيف يربح منهم نفوسًا للمسيح؛ بل ولا حتى شعور بالمسؤولية تجاه إخوته المؤمنين في نفس كنيسته المحلية، كيف يبنيهم في المسيح؛ فتجد قلبه جامدًا تجاه العاثر والضعيف والهزيل من إخوته.

وإن كانت العبادة هي ما ينتجه الروح القدس فينا من المسيح لنقدمه روائح سرور للآب، فهل هذا العمل قاصر فقط على ساعة الاجتماع؟  أوَ ليس هذا هو الذي جعل كثير من المؤمنين لا يفكرون في كيفية الانقياد بالروح القدس إلا في داخل الاجتماع؟! 
ولقد لاحظت، على قدر فهمي، أنه في كل المرات التي تكلم فيها الروح القدس في العهد الجديد عن السجود أو العبادة لم تكن القرينة هي الكلام عن اجتماع القديسين!  كذلك في كل المرات التي تكلم فيها عن اجتماع القديسين لم تكن قرينة الكلام عن العبادة بل عن البنيان والتعزية والتعليم والشركة وكسر الخبز والصلاة!  باستثناء مرة واحدة ربط فيها بين الاجتماع والسجود في 1كورنثوس14: 24،25 ولم تكن عن سجود القديس بل عن سجود شخص غير مؤمن أو عامي قد توبَّخ على خفايا، قلبه فشعر بحضور الله وسط القديسين.  وأعتقد أن الروح القدس لم يربط بينهما لكي يعلمنا أن السجود حالة دائمة عند القديس وليست قاصرة على الاجتماع، فهو ليس شخصًا يقدِّم سجودًا كلما أتيحت له فرصة الاجتماع مع القديسين؛ بل هو ساجد، وأن عبادة الرب بالشكر والتسبيح ليست هي فرض على القديس أن يؤديه، لكنها شيء يفيض تلقائيًا من قلوب فرحت بإلهها لتعليم تعلمته عنه أو بنيان حصلت عليه، أو ربما لرؤيتها قلب الله المحب من خلال خدمة تبشيرية سمعتها لتوها!  وهذا يؤكِّده الواقع العملي، إذ في مرات كثيرة نرى القديسين وقد فاضت قلوبهم بالحمد الكثير والتعظيم للرب، أي بالسجود والتعبد، بعد اجتماع لدرس الكتاب أو بعد سماعهم خدمة كرازية قُدِّمت بقوة الروح القدس.  وأعتقد أن هذا ما كان الرب يقصده عندما أعلن لنا فكر الآب في يوحنا4: 23 أن الآب طالب، ليس سجودًا، بل طالب ساجدين له.  فهم ساجدون قبل أن يأتوا إلى الاجتماع، وهم يعيشون حياة العبادة المستمرة خارج الاجتماع وداخله.  وعليه فإن اجتماعهم ليس هو اجتماعًا للسجود بقدر ما هو اجتماع للساجدين، فيه تفيض قلوبهم بالمسيح لإشباع قلب الآب. 

3- السجود أو العبادة هو تقديم التسبيح والشكر للرب.
لا شك أن التسبيح للرب ذبيحة، وأن كلمات الشكر والحمد له هي أيضًا ذبيحة، فالرسول يقول: «فلنقدِّم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب13: 15).  لكن علينا أن ننتبه لأمر في غاية الأهمية في هذه العبارة، ألا وهو: ”كل حين“.  فالرسول لم يقصر التسبيح على ساعة الاجتماع لأنه يقول: ”كل حين“، وليس ”متى اجتمعتم“. 

لكن يبقى الخطر الأكبر ألا وهو اختزال السجود والعبادة، بكل اتساع وعمق معانيها، إلى مجرد ساعة من الشكر والتسبيح، وتجاهل بقية الذبائح الروحية التي ذكرها العهد الجديد، والتي إذا انفصل عنها التسبيح صار تسبيحًا بلا معنى ولا قيمة.

فطبقًا لمعانى الكلمات الكتابية، رأينا أن السجود الحقيقي هو حالة من الاحترام والخشوع تملأ كيان الساجد من نحو إلهه نتيجة إعلان الله ذاته لهذا الساجد.  ثم رأينا أن العبادة والتي تعني تقديم التقدمات أو الذبائح، ومنها بلا شك ذبيحة التسبيح، تأتي بعد ذلك كتعبير عن هذه الحالة.  لذلك لا انفصال البتة بين السجود والعبادة! «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد».  السجود = التقوى؛ والعبادة = تقديم الذبائح.  لا انفصال بين التقوى وتقديم الذبائح.  فما قيمة تقديم تسابيح كثيرة للرب (عبادة) دون توفر قلب مملوء بالخشوع والاحترام للرب (سجود)؟  أ ليس هذا الانفصال هو الذي أوجد اليوم جماعات كثيرة كل ما تفعله داخل جدران أماكن الاجتماعات هو الوقوف لساعة أو أكثر يتمايلون طربًا بتسابيح كثيرة على أنغام كل أنواع الطرب والموسيقى، بينما حياة التقوى والقداسة والأمانة العملية في الحياة غائبة، بل والشهوات الجسدية والعالمية غير محكومة بالمرة، وربما تظهر فاعليتها بعد الاجتماع مباشرة وحتى قبل الوصول للبيوت؟  ومع هذا هم يسمون ما فعلوه في تلك الساعة سجودًا وعبادة!!  وقد تقول لي هذه ليست عبادة، لأن شكلها خاطئ يرفضه الرب.  أقول لك بالطبع شكلها خاطئ، لكن المشكلة الأعمق ليست في شكلها الخاطئ، بل في جوهرها الغائب.  فالسجود الحقيقي هو حالة قلب خاشع قبل أن يكون كلمات شفاه جميلة وألحان ونغمات رخيمة.  أ لم يوبِّخ الرب قديمًا شعبه عندما فصلوا بين القلب الخاشع والتسبيح فقال لهم: «أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع» (عا5: 23)؟  لقد اعتبر الرب تسابيحهم مجرد ضجة أغاني، لأنه كان يريد خشوع القلوب أمام وصاياه، قبل ترديد الألسنة لسجاياه.  وإن غاب هذا الجوهر الحقيقي للسجود، والذي هو خشية الرب وتقواه، فلا فرق بعد هذا - بحسب اعتقادي - بين شكل صحيح للعبادة، وشكل خاطئ.  لا فرق بين عبادة تتم بالموسيقى، أو بدونها.  لا فرق إن كان هناك قائد، أو بدون قائد.  لقد أصبحت المسألة في كل الأحوال تمثيلية عبادة وليست عبادة.

 وإن كان الكتاب يعلّمنا أننا كهنوت مقدس لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح (1بط2: 5)، فهل سألنا أنفسنا ماهية تلك الذبائح الروحية التي تسر الآب؟  أعتقد أننا لو فعلنا، لما قصَرناها على ساعة شكر وترنيم.  ثم إن الكتاب لم يتركنا لنقترح، لكنه بالتعليم المباشر بل وبالتعليم الرمزي أيضًا يخبرنا عن ماهيتها. 
فقد علمنا أن أول وأهم ذبيحة روحية هي تقديم أجسادنا، أي تكريسها لخدمة الرب وإخضاعها لعمل مشيئته.  يقول الرسول في رومية 12: 1 «أطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية».  وهذه هي المرة الوحيدة التي جاءت فيها كلمة عبادة في صيغة الاسم في كل العهد الجديد عن العبادة المسيحية!  إذا فالتكريس والخدمة شكل من أشكال العبادة، تمامًا كالشكر والتسبيح!  مع فارق هام للغاية، أنه مكلِّف، وقد يكون مؤلمًا للجسد، بينما الشكر والتسبيح غير مكلِّفان، وقد يكونا ممتعين للجسد!

وعلمنا الكتاب على فم صموئيل النبي أن «الاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش» (1صم15: 22).  أي أنه حتى في زمن تقديم الذبائح المادية، أعلن الرب أنه يريد الطاعة قبل أي شيء أخر.  أي أن طاعة وصاياه، والإصغاء لصوته في الحياة، يسعد قلبه أكثر من كل الذبائح. 

بل إن الروح القدس قد شهد لرجل أنه أجاب بعقل عندما قال: «لأن الله واحد وليس آخر سواه.  ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح» (مر12: 32،33).  أي أن الروح القدس يوضح لنا أن محبة القريب كالنفس والتي تستلزم حجمًا كبيرًا من إنكار الذات، هي أفضل عنده من جميع المحرقات والذبائح! إلا أن هذا بالطبع أصعب جدًا على النفس من حضور اجتماع لمدة ساعة، أو الوقوف للتسبيح لمدة ساعة.  والمثير للدهشة أنك قد تجد شخصًا حريصًا كل الحرص على العبادة، بينما إخوته في الاجتماع، بل وأحيانًا عائلته في البيت، يشتكون مرّ الشكوى من غياب المحبة التي يعلمنا الوحي هنا أنها أفضل من كل المحرقات والذبائح.

كما علمنا الكتاب أن فعل الخير والتوزيع على الفقراء هي ذبائح يُسرّ بها الله (عب13: 16).  وكم قلوبنا تفيض بالشكر عندما نرى سخاء القديسين على إخوتهم الفقراء!  فعطاؤهم ليس فقط هو في حد ذاته ذبيحة، بل قد أدى إلى تقديم ذبيحة أخرى لله، كما يقول الرسول في 2كورنثوس9: 11،12،15 «مستغنيين في كل شيء لكل سخاء ينشئ بنا شكرًا لله، لأن افتعال هذه الخدمة ليس فقط يسد أعواز القديسين فقط، بل يزيد بشكر كثير لله...  فشكرًا لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها».  إنها ثلاث ذبائح في ذبيحة واحدة!!  فالذي فتح جيبه وقدَّم، ذبح لله؛ والأخ الفقير الذي أخذ قدَّم شكرًا لله؛ والرسول أو الخادم الذي رأى وأوصل الخدمة فرح بسخاء الإخوة فشكر الله!  إلا أن فتح الجيوب للعطاء أصعب جدًا من فتح الأفواه للغناء.

وعلّمنا الرسول بولس أن تضحية إخوته الفقراء في فيلبي بالمال لأجل الإنجيل، وتضحيته هو بحياته لأجل الإنجيل إنما هي ذبائح تسر قلب الله (في2: 17؛ 4: 18).  لكن هذه الذبائح تستلزم الجهاد مع النفس وقمع الجسد والتضحية بالوقت والجهد والمال والصحة، بل وربما بالحياة أيضًا.  وهذا بالطبع يجعلها ثقيلة وغير مرغوبة من الجسد الذي فينا، والذي يهرب منها إلى ساعة من عبادة شكلية لا تكلّف صاحبها أية تضحيات، بل ربما تجلب له متعة نفسية لا يمكنه تحصيلها من أي مكان آخر.

وإذا ذهبنا للتعليم الرمزي في العهد القديم لنعرف ماهية الذبائح التي كان يطلبها الرب من الساجدين سجودًا رمزيًا في خيمة الاجتماع، سنجد أن تقدمة الدقيق والمحرقة كانا هما تقريبًا أهم روائح السرور التي يطلبها الرب من شعبه كتقدمات يفرحون بها قلبه.  وكما نعلم أن هاتين التقدمتين إنما يكلماننا عن المسيح في حياته الناصعة البياض الناعمة، وعن طاعته للآب حتى الموت موت الصليب.  والآن بعد أن مضى زمن الرموز وجاء زمن الساجدين الحقيقيين، ليس مطلوبًا منا أروع ولا أسمى، وأيضًا لا أقل، من أن نقدم المسيح للآب.  لكن هنا أيضًا تأتي الخدعة الكبرى، إذ نظن أن تقديم الابن للآب هو فقط بالكلام من خلال التشكرات!!  وإذا كانت المسألة هكذا فالأمر لا يتعدى قدرة على الاستيعاب لما نقرأه في الشروحات، ولما نسمعه في العظات، ثم قدرة على التعبير في الاجتماعات.  وعليه فالأخ الذي تنقصه هذه القدرات لا يمكنه أن يقدم الابن للآب أي لا يمكنه أن يكون عابدًا!!  وبالطبع هذا أبعد ما يكون عن تعليم الكتاب، بل هو تشويه للحقيقة.  فالآب يريدنا أن نردد أمامه الابن ترديدًا، ليس بجميل العبارات في الاجتماعات، بل بإظهار جماله فينا وسط احتكاكات الحياة.  نردده أي نستعرضه في سلوكنا ومشاعرنا وأفكارنا.  نردده أي يراه الآب فينا في صمتنا وفي كلامنا في أعمالنا وفي بيوتنا في محبتنا لبعض وفي احتكاكنا ببعض.  يراه في حياتنا، ثم يراه في أحاديثنا عنه مع الآخرين، أي في شهادتنا؛ ثم أخيرًا يراه في شكرنا وعبادتنا في الاجتماع.  لكن العجيب جدًا أنك ترى شخصًا بارعًا في تقديم المسيح للآب في الاجتماع بأروع وأعمق العبارات، بينما تجده لا يعرف كيف يقول كلمتين عنه لنفس ملتاعة على حافة الهلاك!  وآخر يشنف آذان الساجدين بكلمات جميلة عن كمالات المسيح، بينما لا يُظهِر في حياته العملية أي شيء منها!!

أخيرًا أقول: إن الحديث عن السجود والعبادة في هذه الأيام الصعبة، هو حديث ذو شجون وأشجان،  فلقد انقلبت علي أوجاعي وانا أقرأ ما يقوله الكتاب عن السجود والعبادة، وفي الوقت نفسه أقارن ما نفعله بما يقوله الكتاب.  ولقد شاركت بالقليل مما يعتمل في نفسي، أستودعه بين يدي الرب لعله يُرجع المفقود لنفسي وأخي، لعله ينجح في أن يدفعنا لطاعة قول الكتاب «ليمتحن كل واحد عمله»، لئلا نظن في أنفسنا أننا شيء ونحن لسنا شيئًا فنغش نفوسنا. 

ماهر صموئيل