أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - السجود
السنة 2006
من البعد والشرود إلى القرب والسجود

يوحنا 4

رغم أنها متديّنة, إلا أن الدين لم يروِِ غليلها.  ظنّت أن السعادة فى الزواج, فراحَت تدُقّ أبوابه, مرة تلوَ المرة, وظلت نفسها عطشى, بل ومُرّة. كذبوا عليها, وقالوا لها إن الزواج يقتل الحب, فصدّقت الكذب, وبعد خمس تجارب من الزواج الفاشل, اتجهت إلى الهوى, وارتبطَت برجل, وعاشرته معاشرة الأزواج وهو ليس بزوجها.  وفي ذات يوم، وبينما كانت ذاهبة كعادتها لتستقي ماء, كان في انتظارها شخص عجيب.  تحدّث معها, وكشف لها عن عطش نفسها الرهيب.  كان رقيقًا جدًا معها، فلم يشعرها بأنه أفضل منها, بل هو محتاج إليها, إذ قال لها: «أعطيني لأشرب»!  وأعطاها فرصة للكلام, واحتملها, وأيقظ فيها الشعور بحاجتها إليه, وإلى عطاياه, فهو الوحيد الذي يعطي الماء الحي, وأدهشها بعلمه لماضيها وحاضرها, لكنه لم يجرح مشاعرها.  فطلبت منه هذا الماء ليروي عطشها, فأقنعها بخطيتها, وضرورة توبتها.  وعندما سألت عن السجود أجابها عن موضعه, ووقته, ومن ذا الذي يستحق السجود, وأساس السجود, وحال هؤلاء الساجدين, وأخيرًا أعلن لها أنه هو المسيح!

عندئذ تركت المرأة جَرّتها, وذهبت إلى مدينتها, وأذاعت بشارتها.  ويا للنتائج الباهرة لخدمتها! «فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد: أنه قال لي كل ما فعلت (يو39:4).  فطلب السامريون من المسيح أن يمكث عندهم, فمكث هناك يومين, «فآمن به أكثر جدًا بسبب كلامه.  وقالوا للمرأة: إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن. لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم» (يو4: 41، 42).

إنه لمن المناسب، أيها القارئ العزيز، قبل الخوض في هذا العدد الذي يتحدّث عن أعظم وأقدس موضوع، أن نتحقق من ثلاثة أمور هامة، بدونها لا يمكن أن نقدِّم لله سجودًا حقيقيًا وهي:

  1.  أن مياه العالم لا تُعطي الريّ
  2.  المسيح يعطي الماء الحي
  3.  كُلفة هذا الماء الحي

1- عالم لا يعطي الريّ

إن مياه العالم (أي ملذاته وشهواته) مهما شرب منها الإنسان فلن ترويه، بل ستزيده عطشًا، وذلك لعدة أسباب. فهي:

أولاً: مياه مسروقة.  فمهما زيَّن الشيطان بضاعته وحلاّها, ومهما جمَّل دعوته وعلاّها, ومهما لوَّن سمومه وأخفاها, خادعًا الجُهال وناقصي الفهم قائلاً لهم إن «المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ»، تظل الحقيقية «أن الأخيلة (أشباح الموتى) هناك, وأن في أعماق الهاوية ضيوفها» (أم9: 17). 

ثانيًا: متسربة.  «ابهتي أيتها السماوات من هذا، واقشعرّي، وتحيّري جدًا، يقول الرب؛ لأن شعبي عمل شَرّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشقَّقَة لا تضبط ماء» (إر2: 12، 13).  لذلك قال داود: «تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر» (مز16: 4).  ثم أكد ذلك سليمان ابنه أن: «الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس» (جا2: 11).  وهذا ما قرره رب داود لهذه المرأة إذ قال لها: «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا» (يو4: 13).

ثالثًا: مياه مُرّة.  إنها تشبه المياه التي لم يقدر الشعب أن يشرب منها في مارة, لأنها مُرّة (خر15: 23).  قد تبدو الشهوة جذّابة وحلوة في بدايتها, «لكن عاقبتها مُرّة كالأفسنتين» (أم5: 3، 4)

رابعًا: مياه مكلِّفة.  إن فعل الخطية, رغم أنه مدمر, إلا إنه مكلِّف أيضًا.  زرت مرة بعض المساجين، كانوا على وشك الخروج والإفراج عنهم بعد إنتهاء مدة حبسهم, فتحدّثنا عن الدروس المستفادة من السجن, قال أحدهم: ”الكحوليات أفقدتني كبدي“, وقال آخر: ”التدخين أذى لي صدري“, وقال ثالث: ”بسبب الزنا افتقرت, وبعت البيت, ودخلت السجن, ولحق بي العار“.  فالخطية مكلّفة جدًا لذلك يقول الكتاب: «لماذا تزنون فضة لغير خبز؟  وتعبكم لغير شبع؟» (إش55: 2)

خامسًا: البئر عميقة (يو4: 11).  فالنفس البشرية عميقة كالبحر و«كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن.. العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع» (جا1: 7، 8).  كتب بليونير يقول: ”لديَّ كل ما يجعلني سعيدًا، من مال وثروة, وجاه وشهرة, لكنني بائس“.

2- المسيح يعطي الماء الحي

والماء الحي هنا هو رمز للروح القدس كما نفهم من يوحنا7: 39 فالروح يلد الإنسان من فوق (يو3: 5), ويعطي قوة للشهادة, وأيضًا للسجود والعبادة.  وكما الماء في الحياة الطبيعية، كذلك الروح في الحياة الروحية, فالنبات بدون الماء يموت.  وهذا ما حدث مع هذه المرأة, لقد وُلدت من جديد, وراحت تسأل عن السجود, وعرفت أن الله روح, وأن الساجدين له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.  ثم تركت الجرة, ومارست الكهنوت الملوكي, إذ أخبرت بفضائل الذي دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب!

3- كلفة الماء الحي
لكي يمنحنا المسيح الماء الحي كان عليه أن يتمم المكتوب: «يبست مثل شقفة قوتي، ولصق لساني بحنكي، وإلى تراب الموت تضعني» (مز22: 15).  لذلك وبعد أن «رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلكي يتم الكتاب، قال: أنا عطشان» (يو19: 28).

مروي العطاش قد عطش
  والخلَّ أيضًا قد شرِب

وهكذا تم الكتاب
  وكل ما عنه كُتب

في رحلة الشعب القديم من سين إلى رفيديم, لم يكن ماء ليشرب الشعب, ولكي يصل الماء للشعب، قال الرب لموسى: «تضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب. ففعل موسى هكذا» (خر17: 6).  ويعلِّق الرسول بولس في 1كورنثوس10: 4 قائلاً: «لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح».  لذلك نحن نرنم شاكرين وساجدين قائلين له:

يا صخرة الدهور قد
  ضُرِبتَ من أجلي

لتفتح الباب الذي
  يدخله مثلي

لقد مات المسيح, وأكمل العمل, وتمجَّد بقيامته وصعوده, وجاء الروح القدس ولا زلنا نسمع أجراس النعمة تدق: «إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب.   من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي» (يو7: 37، 38).  فيا ليت قلوبنا تَرِقّ نظير السامرية التي كانت بعيدة شاردة, فأصبحت قريبة وساجدة.  فلا يوجد شبع أو ري، بعيدًا عن المسيح الحي.

صفوت تادرس