أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الفرح
السنة 2014
وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ (لو1: 14)

على قَدر روعة الحياة المسيحية ولذّتها، وعلى قدر مصادر الفرح المتعددة التي جهزها الله لنا فيها، إلا أن هناك علامات استفهام كثيرة، حول غياب الفرح من حياة الكثيرين منا عمليًا، رغم اقتناعنا بأهميته فكريًا وروحيًا، فأصبحت الابتسامة - للأسف - نادرة على شفاه المؤمنين، واكتسبت ”التكشيرة“ مظهرًا دينيًا، بالضبط كما يفعل المراؤون (مت6: 16)!

وهنا، ومن خلال قصة قصيرة وعميقة نعرفها جميعًا، يمكننا أن نستنتج بعض الأفكار المشجِّعة لنا، لكي تساعدنا على أن نعيش حياة الفرح بشكل عملي وواقعي، فيكتمل تخطيط الله الذي يسعده سعادتنا، وتتم فينا الكلمات: «وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ»!

الجملة الاعتراضية

زكريا وأليصابات زوجان رائعان، كوَّنا ثُنائيًا تقيًا، فهُما يخافان الله ويسلكان في طرقه المستقيمة (لو1: 6).  ولكن رغم هذا، لم تَخلُ حياتهما من عقدة لا حل لها، وحرمان قاسٍ يسحب من رصيد السعادة لديهم؛ فقد حُرما من الإنجاب، وهو أمر صعب جدًا على اليهود في ذلك الوقت، ويبدو من استهلال قصتهما الثرية، أنهما صلَّيا كثيرًا لله، لكي يُعطيهما نسلاً، ولكنه لم يُجبهما، لدرجة أنهما نسيا هذه الطلبة، وظنا أن الله أيضًا قد نسيها!!

ولكن يلفت نظري، أن زكريا وزوجته تعاملا مع تجربتهما باعتبارها جملة اعتراضية، واستمرا في ممارسة حياتهما الاجتماعية بشكل طبيعي، وفي علاقة روحية سوية وصحيحة مع الله، بدليل أن زكريا دخل ليبخِّر في هيكل الله حين أصابه الدور (لو1: 8، 9)، ولم ينشغل بملف الابن المنتظر، واهتم فقط بخدمة الناس وكهنوت الله، رغم أن الله لم يستجب طلبته، ولم يسدِّد حرمانه بعد!

وهنا الدرس الأول لنا، فيقينًا في حياة كل منا، حرمان مشابه، أو ألم قاسٍ، أو تجربة بلا تفسير، ولهذا فعلينا أن نحذو حذو هذين الزوجين الرائعين، ونضع كل هذا في جملة اعتراضية، لأن هذا هو مكانها، ولأنه هكذا ينظر الله لها؛ فمهما كانت آلام وضيقات الحاضر، فهي جملة اعتراضية ودخيلة بالنسبة لأمجاد المستقبل، لأن «آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رو8: 18)، وعلينا أن لا نَدَع هذا الحرمان مهما كان، يقفز من داخل أقواس الجملة الاعتراضية، فيسلبنا فرحنا الوفير، ويشكِّكنا في صلاح إلهنا القدير.

الحكمة الإلهية

سمع الله طلبة الزوجين القديمة، وأرسل ملاكًا لزكريا يبشِّره بذلك، وقال له: «طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا، وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ» (لو1: 13-15)، وبالفعل صار يوحنا عظيمًا؛ بل هو أعظم المولودين من النساء بشهادة رب المجد نفسه (مت11: 11).

وهنا الدرس الثاني لنا؛ فالله الحكيم القدير عندما يتمهل في الاستجابة لطلباتنا، ليس لكي يعذبنا أو يتلذذ بذُلّنا، ولا لكي يحرمنا من فرحٍ لازمٍ وجازمٍ لنا، ولكن لديه - تعالى - حكمة إلهية جليلة، تجعله ينتظر علينا لكي يعطينا ”يوحنا“ الأفضل والأعظم والأبقى لنا، سواء هنا، أو في الأبدية، وإن أدركنا هذا، فسيستمر فرحنا، ليس فقط بعطايا محبته (نجاح، زواج، أموال، إنجاب، خدمة)، ولكن سنفرح أيضًا بتمهُّل حكمته!!

الخطة الشمولية

انتهت مشكلة زكريا وزوجته نظريًا؛ ففرح هو بلقب ”أبي يوحنا“، وفرحت زوجته بتهاني الجيران لها.  ولكن مهلاً، فلم تنتهِ القصة عند الله بعد، فقد أكمل الملاك كلامه عن يوحنا قائلاً: «وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا» (لو1: 17)، وهنا كل العجب!!  فيوحنا هذا سيكون له دور مزدوج في خطة الله وملكوته، جزء منه يخصّ المسيح ابن الله، محور أفكاره ومشيئته؛ وجزء آخر يخصّ الناس الخطاة، محور محبته ورحمته، وهذا الأمر لم يفكِّر فيه زكريا من قبل!!

وهنا الدرس الثالث لنا، فالله المحب لا يكتفي بأن يُفرحنا باستجابته الرائعة لطلباتنا، ولا حتى بتسديده الوافي لحرماننا، ولكنه لديه خطة شمولية رائعة لفرحنا؛ خطة متَّسقة ومتكاملة مع بعضها البعض (homogenous)، وفيها عوامل كثيرة غيرنا؛ نحن أحد عواملها، وليس كل عواملها، وبالتالي ففرحنا لن يكتمل، إلا باكتمال فرح الله شخصيًا، وهذا لن يتم إلا وفق أجندته الشمولية، وتوقيتاته التي لا تعرف العشوائية.

عزيزي القارئ: دعنا نضع تجاربنا وآلامنا وحرماننا - مهما كانت - في جملة اعتراضية، وفي الوقت نفسه نواصل علاقتنا وشركتنا مع إلهنا الذي يحبنا ويبغي سعادتنا، ولعلنا أيضًا ندرك حكمته الإلهية من تمهّله علينا، لأنه ببساطة لن يرضى بأقل من ”يوحنا“ لنا، فنخرج من شرنقتنا الذاتية، ونتأمل خطته المتسقة الشمولية، ووقتها سنفرح حين يفرح هو، وتتم فينا الكلمات الرائعة: «وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ»!!